247
مكاتيب الأئمّة ج1

[ أقول : نقل مصنِّفُ كتاب معادن الحكمة كتابه إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر ، حين قلَّدهُ مِصر َ عن النَّهج ، ولكنَّه قسّم منه جزءا من كتابه المفصّل المشتمل على مسائل كثيرة، الَّذي نقله المُصنِّف، من قوله عليه السلام : « واعلم يا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ ، قد ولّيتك . . . وليس في شيء سواه خلف منه » ، وقسّم أيضا جزءا منه نقله المصنِّف « واعلموا عباد اللّه أنَّ المتقين ذهبوا . . . » ، على اختلاف في الألفاظ ومواضع الجملات ، ويأتي نقله بعد هذا أيضا . ولعل السَّيِّد كانت عنده رواية لم تصل إلينا .
وما ذكرناه نحن عن الغارات أيضا ، ذيله موجود في الكتاب الطَّويل ، وفي شرح المعتزلي نقل هذا الكتاب عن إبراهيم الثَّقَفي ّ في الغارات ، وقال : كتب عليّ عليه السلام إلى أهل مصر لمَّا بعث مُحَمَّد بن أبي بَكر إليهم كتابا يخاطبهم به ، ويخاطب مُحمّد ا أيضا ، ثُمَّ نقل الكتاب، والضَّمائر فيه بخطاب الجمع ، كقوله « أُوصِيكُم ، آمرُكُم ، مِنكُم و . . . ، ومراده من مخاطبته محمّدا قوله عليه السلام : « ثُمَّ اعلم يا محمّد . . . » ]

47

كتابه عليه السلام لمُحَمَّد بن أبي بَكر وأهل مصر

۰.قال إبراهيم الثَّقَفي ّ : كتب مُحَمَّد بن أبي بَكر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو إذ ذاك بمصر، عاملها لعليٍّ عليه السلام ، يسأله جوامع من الحرام والحلال والسُّنَنِ والمواعظ ؛ فكتب إليه :
لعبدِ اللّه ِ أميرِ المُوِنين َ مِن مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ ؛ سلامٌ عليكَ فإنِّي أحمَدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إله إلاَّ هوَ ، أمَّا بَعدُ ؛ فإن رأى أميرُ المُوِنينَ ـ أرانا اللّه ُ وجَماعَةَ المُسلِمينَ فيهِ أفضلَ سُرورِنا وأملَنا فيهِ ـ أن يكتُبَ لنا كِتابا فيهِ فَرائِضُ ، وأشياء مِمّا يُبتلى بهِ مِثلي مِنَ القضاءِ بينَ النَّاسِ فَعَلَ ؛ فإنَّ اللّه َ يُعظِّمُ لِأمِيرِ المُوِنينَ الأجرَ ،
ويُحسِنَ لَهُ الذُّخْرَ . فكتب إليه عليٌّ عليه السلام :
« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من عبد اللّه ِ أميرِ المُوِنينَ عليِّ بنِ أبي طالب ، إلى مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ وأهلِ مِصر ؛ سلامٌ عَلَيكُم ، فإنِّي أحمَدُ إليكُمُ اللّه َ الَّذي لا إله َ إلاَّ هُوَ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فَقَدْ وَصَلَ إليّ كتابُكَ ، فَقَرأتُهُ وفَهِمتُ ما سألتَني عَنهُ ، وأعجَبنِي اهتِمامُكَ بِما لابُدَّ لَكَ مِنهُ، وما لا يُصلِحُ المُسلِمين َ غَيرُهُ ، وظَننتُ أنَّ الَّذي دَلَّكَ عَلَيهِ نِيَّةٌ صالِحَةٌ ، ورَأْيٌ غيرُ مَدخُولٍ ولا خَسيسٍ ، وقَد بعثتُ إليكَ أبوابَ الأقضِيَةِ جامِعا لكَ فيها ، ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ ، وحَسْبُنا اللّه ُ ونِعمَ الوَكيلُ » .
وكتب إليه عمّا سأله من القضاء ، وذكر الموت ، والحساب ، وصفة الجنّة والنَّار ، وكتب في الإمامة ، وفي الوضوء ، ومواقيت الصَّلاة ، وفي الرُّكوع والسُّجود ، وفي الأدب ، وفي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، وفي الصَّوم والاعتكاف ، وفيالزَّنادقة ، وفي نصرانيّ فجر بامرأة مُسْلِمة ، وفي أشياء كثيرة لم يُحفظ منها غير هذه الخصال ؛ وحدّثنا ببعض ما كتب إليه . ثُمَّ نقل إبراهيم الكتاب المتقدم إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر وأهل مصر ، ثُمَّ قال :
عن عبد اللّه بن الحسن ، عن عباية قال : كتب عليّ عليه السلام إلى مُحَمَّد وأهل مصر :
« أمَّا بعدُ ؛ فإنِّي أُوصيكُم بِتقوَى اللّه ِ والعَمَلِ بما أنتُم عَنْهُ مسؤولونَ ، فَأنتُم بهِ رَهْنٌ وأنتُمْ إليهِ صائِرونَ ، فإنَّ اللّه َ عز و جل يَقُولُ : « كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ »۱ وقال : « وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ »۲ وقال : « فَوَرَبِّكَ لَنَسْئلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *
عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ »۳
.
فاعلَمُوا عبِادَ اللّه ِ أنَّ اللّه َ سائِلُكُم عَنِ الصَّغِيرِ مِن أعمالِكُم والكَبيرِ ، فإنْ يُعذِّبْ فَنَحْنُ أظلَمُ ، وإنْ يَعفُ فَهوَ أرحَمُ الرَّاحِمينَ .
واعلموا أنَّ أقربَ ما يكُونُ العبدُ إلى الرَّحمَةِ والمَغفِرَةِ حِينَ يَعمَلُ بِطاعَةِ اللّه ِ ومُناصَحَتِهِ في التَّوبَةِ ، فعليكُم بِتَقوى اللّه ِ عز و جل ، فَإنَّها تَجمَعُ مِنَ الخَيرِ ما لا يَجمَعُ غَيرُها ، وَيُدرَكُ بِها مِنَ الخَيرِ ما لا يُدرَكُ بِغَيرِها ؛ خيرُ الدُّنيا وخَيرُ الآخِرَةِ ، يَقولُ اللّه ُ : « وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ »۴ .
واعلموا عِبادَ اللّه ِ ، أنَّ المُوِنَ يَعمَلُ لِثَلاثٍ : إمّا لِخَيرِ الدُّنيا ، فإنَّ اللّه َ يُثيبَهُ بِعَمَلِهِ في الدُّنيا ، قالَ اللّه ُ سبحانه : « وَ ءَاتَيْنَـهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّــلِحِينَ »۵ فَمَنْ عَمِلَ للّه ِ تَعالى أعطاهُ أجرَهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، وكفاهُ المُهِمَّ فيهما ، وقَد قالَ : « يَـعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ وَ سِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ »۶ فما أعطاهُم اللّه ُ في الدُّنيا لَمْ يُحاسِبْهُم بِهِ في الآخِرَةِ ، قال : « لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَ زِيَادَةٌ »۷ فالحُسنى هِيَ الجَنَّةُ ، والزِّيادَةُ هِيَ الدُّنيا ، وإمَّا لخير الآخِرَة ؛ فإنَّ اللّه َ يُكَفِّرُ عَنهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ سَيِّئةً ، يقول : « إِنَّ الْحَسَنَـتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَ لِكَ ذِكْرَى
لِلذَّ كِرِينَ »۸
حَتَّى إذا كانَ يَومُ القِيامَةِ حُسِبَتْ لَهُم حَسَناتُهُم ، وأُعطُوا بِكُلِّ واحدةٍ عَشْرَ أمثالِها إلى سَبعِمئَةِ ضِعْفٍ ؛ فَهُو الَّذي يَقُولُ : « جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَـآءً حِسَابًا »۹ ويقولُ عز و جل : « فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَ هُمْ فِى الْغُرُفَـتِ ءَامِنُونَ »۱۰ فارغَبُوا فِيهِ ، واعمَلُوا بهِ ، وتَحَاضُّوا عَلَيهِ .
واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ أنَّ المُوِنينَ المُتَّقينَ ذَهبُوا بِعاجِلِ الخَيرِ وآجِلِهِ ، شَارَكُوا أهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ، ولَمْ يُشارِكُهم أهلُ الدُّنيا في آخِرَتِهِم ، يقولُ اللّه ُ عز و جل : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَـتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَـمَةِ كَذَ لِكَ نُفَصِّلُ الأَْيَـتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ »۱۱ سَكَنوا الدُّنيا بأفضَلِ ما سُكِنَتْ ، وأكلُوها بأفضلِ ما أُكِلَتْ ، شارَكُوا أهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ؛ أكَلُوا مِن أفضلِ ما يأكُلونَ ، وشَرِبُوا مِن أفضلِ ما يَشرَبُونَ ، ولَبِسُوا مِن أفضلِ ما يَلبَسُونَ ، وسَكَنُوا بأفضلِ ما يَسكُنونَ ، وتزوَّجُوا مِن أفضلِ ما يَتَزَوَّجُونَ ، ورَكِبُوا مِن أفضلِ ما يَركَبُونَ ، أصابُوا لَذَّةَ الدُّنيا مَعَ أهلِ الدُّنيا ، مَعَ أنَّهم غَدا مِن جِيرانِ اللّه ِ عز و جل يَتَمنَّونَ عليهِ ، فَيُعطِيهِم ما يَتَمنَّونَ ، لا يَرُدُّ لَهُم دَعوَةً ولا يَنقُصُ لَهُم نَصِيبٌ مِن لَذَّةٍ ، فإِلى هذا يَشتَاقُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقلٌ ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ .
واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ ، أنَّكُم إنِ اتَّقيتُم ربَّكُم وحَفِظْتُم نَبيَّكُم في أهلِ بَيتِهِ فَقَد عَبدتُموهُ بِأفضَلِ ما عُبِدَ ، وذَكَرتُموهُ بأَفضلِ ما ذُكِرَ ، وشَكَرتُمُوهُ بأفضلِ ما شُكِرَ ، وأخَذْتُم بأفضَلِ الصَّبرِ ، وجَاهَدتُم بأفضَلِ الجهادِ ، وإنْ كانَ غَيرُكُم أطولَ صَلاةً مِنكُم ، وأكثَرَ
صِياما ؛ إذ كُنْتُم أتقى للّه ِ ، وأنصَحَ لِأولِياءِ الأمرِ مِن آلِ مُحَمَّد ٍ وأخشَعَ .
واحذَرُوا عِبادَ اللّه ِ الموتَ ونُزُولَهُ، وخُذوا لَهُ عُدَّتَهُ ، فإنَّهُ يَدخُلُ بِأمرٍ عَظِيمٍ ، خَيرٌ لا يَكونُ مَعَهُ شَرٌّ أبدا ، وشَرٌّ لا يكونُ مَعَهُ خَيرٌ أبدا ، فَمَنْ أقربُ إلى الجَنَّةِ مِن عامِلِها ؟ ! ومَنْ أقربُ إلى النَّارِ مِن عامِلِها ؟ ! إنَّه ليسَ أحَدٌ مِن النَّاسِ تُفارِقُ رُوحَهُ جَسَدَهُ حَتَّى يعلَمَ إلى أيِّ المَنزِلَينِ يَصيرُ ! إلى الجَنَّةِ أو إلى النَّارِ ؟ أعدوٌّ هُو للّه ِ أم هُوَ وَلِيٌّ لَهُ ؟
فإن كانَ ولِيّا للّه ِ فُتِحَت لَهُ أبوابُ الجَنَّةِ ، وشُرِعَتْ لَهُ طُرُقُها ، ورَأى ما أعَدَّ اللّه ُ لَهُ فِيها ، فَفَرِغَ مِن كُلِّ شُغلٍ ، وَوُضِعَ عَنهُ كُلُّ ثِقلٍ ، وإنْ كانَ عَدُوَّا للّه ِ فُتِحَت لَهُ أبوابُ النَّارِ ، وشُرِعَتْ لَهُ طُرُقُها ، ونَظَر إلى ما أعدَّ اللّه ُ لَهُ فِيها ، فاستقبَلَ كُلَّ مَكرُوهٍ ، وتَركَ كُلَّ سُرورٍ ؛ كُلُّ هذا يَكونُ عِندَ المَوتِ ، وعِندَهُ يَكونُ بِيقينٍ ، فقال اللّه تعالى : « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »۱۲ ويقول : « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءِ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَ بَ جَهَنَّمَ خَــلِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ »۱۳ .
واعلموا عِبادَ اللّه ِ أنَّ الموتَ لَيس مِنهُ فَوتٌ ، فاحذَروهُ قَبلَ وقوعِهِ ، وأعدِّوا لَهُ عُدَّتَهُ ، فإنَّكم طُرَدَاءُ ۱۴ المَوتِ وجدُّوا لِلثوابِ ، إنْ أقمتم لَهُ أخَذَكُم ، وإنْ هَربتُم مِنهُ أدركَكَمْ ، فَهو ألزَمُ لَكُم مِن ظلِّكم ، مَعقودٌ بِنواصِيكُم ، والدُّنيا تَطوي من خَلفِكُم ، فأَكثِرُوا ذِكرَ المَوتِ عِندَما تُنازِعُكُم إليهِ أنفسُكُم مِنَ الشَّهواتِ ، فإنَّه كَفى بالمَوتِ
واعظا ، وكان رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله كَثيرا ما يُوصِي أصحابَهُ بِذِكرِ المَوتِ فَيَقولُ : أكثِروا ذِكرَ المَوتِ فَإنَّهُ هادِمُ اللَّذَّاتِ ، حَائِلٌ بَينَكُم وبَينَ الشَّهواتِ .
واعلمُوا عِبادَ اللّه ِ ، أنَّ ما بَعدَ المَوتِ أشدُّ مِنَ المَوتِ لِمَن لَم يَغفِرِ اللّه ُ لَهُ ويَرحَمُهُ ، واحذَرُوا القَبرَ وضَمَّتَهُ وضِيقَهُ وظُلْمَتَهُ وغُربَتَهُ ، فإنَّ القبرَ يَتكَلَّمُ كُلَّ يومٍ ، ويَقولُ : أنا بيتُ التُّرابِ ، وأنا بَيتُ الغُربَةِ ، وأنا بَيتُ الدُّودِ ، والهَوامِّ ، والقَبر رَوضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ ، أو حُفرَةٌ مِن حُفَرِ النَّارِ ، إنَّ المُسلِمَ إذا دُفِنَ قالَت لَهُ الأرضُ : مَرحَبا وأهلاً ، قَد كُنتَ مِمَّنْ أُحِبُّ أن يَمشِي علَى ظَهرِي ، فَإذا وَلِيتُكَ فَسَتَعلَمُ كَيفَ صُنعِي بِكَ ؛ فَيتَّسِعَ لَهُ مدَّ البَصَرِ ، وإذا دُفِنَ الكَافِرُ قالَت لَهُ الأرضُ : لا مَرحَبا ولا أهلاً ، قَد كُنتَ مِمَّنْ أُبغِضُ أن يَمشِي علَى ظَهرِي ، فإذا وَلِيتُكَ فَسَتَعلَمُ كيفَ صُنعِي بِكَ ؛ فَتَنضَمُّ عليهِ حَتَّى تَلتَقِي أضلاعُهُ ، واعلَمُوا أنّ المَعِيشَة الضَّنْكَ الَّتي قال اللّه تعالى : « فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا »۱۵ هِيَ عذابُ القَبرِ ، وإنَّهُ لَيُسلّطُ علَى الكافِرِ في قبرِهِ تِسعَة وتسعين تِنّينا تَنهَشُ لَحمَهُ حَتَّى يُبعَثَ ، لو أنَّ تِنّينا مِنها نَفَخَ في الأرضِ ما أنبتَتْ رِيعَها أبدا .
واعلموا عِبادَ اللّه ِ أنَّ أنفُسَكُم وأجسادَكُم الرَّقيقَةَ النَّاعِمَةَ الَّتي يَكفيها اليسيرُ مِنَ العِقابِ ضَعِيفَةٌ عَنْ هذا ؛ فإنِ استطَعتُم أن تَرحَمُوا أنفُسَكُم وأجسادَكُم مِمّا لا طاقَةَ لَكُم بِهِ ولا صَبْرَ لَكُم علَيهِ ، فَتَعمَلُوا بِما أحبَّ اللّه ُ سُبحانَهُ ، وتَترُكُوا ما كَرِهَ ؛ فافعَلُوا ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ .
واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ أنَّ ما بَعدَ القَبرِ أشدُّ مِنَ القَبرِ ، يَومٌ يَشِيبُ فيهِ الصَّغِيرُ ، ويَسكَرُ فيهِ الكَبِيرُ ، ويَسقُطُ فِيهِ الجَنِينُ ، وتَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمّا أرضَعَتْ ، واحذَرُوا يَوما
عَبُوسا قَمطَرِيرا ، يوما كانَ شَرُّهُ مُستَطِيرا ، أما إنَّ شَرَّ ذلِكَ اليَومِ وفَزَعَهُ استَطارَ ، حَتَّى فَزِعَت مِنهُ المَلائِكَة ُ الَّذِين لَيستْ لَهُم ذُنوُبٌ ، والسَّبعُ الشِّدادُ ، والجِبالُ الأوتادُ ، والأرضُونَ المِهادُ ، وانشقَّتِ السَّماءُ فهي يَومَئذٍ واهية ، وتغيَّرَتْ فكانَتْ وَرِدَةً كالدِّهانِ ، وكانَتِ الجِبالُ سَرابا بعدما كانَتْ صُمّا صِلابا ، يقول سبحانه : « وَ نُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـوَ تِ وَ مَن فِى الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ »۱۶ فَكيفَ بِمَنْ يَعصِيهِ بالسَّمعِ والبَصرِ واللِّسانِ واليَدِ والرِّجلِ والفرْجِ والبَطنِ ، إن لم يغفر اللّه ُ ويرحَمُ .
واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ أنَّ ما بَعدَ ذلِكَ اليَومِ أشدُّ وأدهى علَى مَنْ لَمْ يَغفِرِ اللّه ُ لَهُ مِن ذلِكَ اليومِ ، فإنَّهُ يقضي ويَصيرُ إلى غيرِهِ ؛ إلى نارٍ قَعرُها بَعيدٌ ، وحَرُّها شَدِيدٌ ، وعذابُها جديدٌ ، وشَرابُها صَدِيدٌ ، ومقامِعُها حَدِيدٌ ، لا يَفتَرُ عَذابُها ، ولا يَموتُ ساكِنُها ، دارٌ لَيستْ للّه ِ سُبحانَهُ فيها رَحمَةٌ ، ولا يُسمَعُ فيها دَعوَةٌ .
واعلَموا عِبادَ اللّه ِ أنَّ مَعَ هذا رَحمَةَ اللّه ِ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء لا تَعجَزُ عَنِ العِبادِ ، وجَنَّةً عَرضُها كَعَرضِ السَّماواتِ والأرضِ أُعِدَّتْ للمُتَّقينَ ، خيرٌ لا يَكونُ مَعَهُ شرٌّ أبدا ، وشهوَةٌ لا تَنفَدُ أبدا ، ولَذَّةٌ لا تفنى أبدا ، ومجمعٌ لا يتفرَّقُ أبدا ، قَومٌ قد جَاوَروا الرَّحمنَ ، وقامَ بَينَ أيديهِم الغِلمانُ ، بِصِحافٍ مِن ذَهَبٍ فيها الفاكِهَةُ والرَّيحانُ .
فقال رجل : يا رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إنِّي أُحِبُّ الخيلَ، أ في الجَنَّةِ خَيلٌ ؟ ـ قال : نَعَم ، والذي نَفسي بيدِهِ ، إنَّ فيها خيلاً من ياقوتٍ أحمَر عليها يَركَبُونَ ، فَتَدِفّ بِهِم خِلالَ وَرقِ الجَنَّةِ . قال رجل : يا رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إنِّي يُعجِبُني الصَّوتُ الحسَنُ ؛ أ في الجَنَّةِ
الصَّوتُ الحَسَنُ ؟ ـ قال : نعم ، والَّذي نفسي بيده ، إنَّ اللّه َ لَيَأمُرُ لِمَن أحَبَّ ذلِكَ مِنهُم بِشَجَرٍ يُسمِعُهُ صَوتا بالتَّسبيحِ ما سَمِعَتْ الآذان بِأحسنَ مِنهُ قَطُّ .
قال رجل : يا رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إنِّي أحبُّ الإبلَ ، أ في الجنَّةِ إبِلٌ ؟ قال : نعم ، والَّذي نفسي بيدِهِ ، إنَّ فيها نَجائِبَ مِن ياقوتٍ أحمَرَ ، عليها رِحالُ الذَّهَبِ ، قد أُلحِفَتْ بِنَمارِقِ الدِّيباجِ ، يَركَبونَ فَتَزِفُّ بِهِم خِلالَ ورَقِ الجَنَّةِ ، وإنَّ فيها صُوَرُ رِجالٍ ونساءٍ يَركبونَ مَراكِبَ أهلِ الجَنَّةِ ، فإذا أعجَبَ أحدَهُم الصُّورَةُ قال : اجعَلْ صُورَتي مِثلَ هذهِ الصُّورَةِ ، فَيَجعَلُ صُورَتَهُ عليها ، وإذا أعجَبَتهُ صُورَةُ المَرأةِ قال : رَبِّ اجعل صُورَةَ فُلانَةَ زَوجَتِهِ مِثلَ هذهِ الصُّورَةِ ، فَيَرجِعُ وقد صارَت صُورَةُ زَوجَتِهِ علَى ما اشتهى .
وإنَّ أهل الجنَّة يزورونَ الجَبَّار كُلَّ جُمُعَةٍ ، فيكونُ أقربُهُم مِنهُ علَى مَنابِرَ مِن نُورٍ ، والَّذِين يَلُونَهُم علَى مَنابِرَ مِن ياقُوتٍ، والَّذِين يَلُونَهُم علَى مَنابِرَ مِن زَبَرجَدٍ ، والَّذِين يَلُونَهم علَى مَنابِرَ مِن مِسكٍ ، فبينا هُم كَذلِكَ يَنظُرونَ إلى نُورِ اللّه ِ جَلَّ جَلالُهُ ، وينظُرُ اللّه ُ في وُجوهِهِم ، إذ أقبَلَتْ سَحابَةٌ تَغشاهُم فَتُمطِرُ علَيهِم مِنَ النِّعْمةِ واللَّذَّة والسُّرورِ والبَهجَةِ ما لا يَعلَمُه إلاَّ اللّه ُ سُبحانَهُ .
ثُمَّ قال : بلى إنَّ مَعَ هذا ما هُوَ أفضلُ مِنهُ ، رِضوانُ اللّه ِ الأكبرُ ، فلو أنَّنا لَمْ يُخَوِّفنا بِبَعضِ ما خَوَّفَنا ، لَكُنَّا مَحقُوقِينَ أن يَشتَدَّ خوفُنا مِمَّا لا طاقَةَ لنا بِهِ، ولا صَبرَ لَنا عَليهِ ، وأنْ يَشتَدَّ شَوقُنا إلى ما لا غِنَى لَنا عَنهُ ، ولابُدَّ لَنا مِنهُ ، فإنِ استطَعتُم عِبادَ اللّه ِ أن يشتدَّ خَوفُكُم مِن ربِّكُم ، ويَحسُنَ بهِ ظنُّكم فافعَلُوا ، فإنَّ العبدَ إنَّما تكونُ طاعَتُهُ على قَدرِ خَوفِهِ ، إنَّ أحسَنَ النَّاسِ طَاعَةً للّه ِ أشدُّهُم لَهُ خَوفا .

1.المدثر : ۳۸ .

2.آل عمران : ۲۸ .

3.الحجر : ۹۲ و۹۳ .

4.النحل : ۳۰ .

5.العنكبوت : ۲۷ .

6.الزمر : ۱۰ .

7.يونس : ۲۶ .

8.هود : ۱۱۴ .

9.النبأ : ۳۶.

10.سبأ : ۳۷ .

11.الأعراف : ۳۲ .

12.النحل : ۳۲ .

13.النحل : ۲۸ و۲۹ .

14.في النهاية : كنت أطارد حيَّة ،أي أخادعها لاصيدها ، منه طراد الصيد .

15.طه : ۱۲۴ .

16.الزمر : ۶۸ .


مكاتيب الأئمّة ج1
246
  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج1
    المساعدون :
    فرجي، مجتبي
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 107663
الصفحه من 568
طباعه  ارسل الي