177
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ ، وَأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، وَلاَ يَجْمَعُهُما غَيْرُكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَبا ، وَالْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفا .

قال الرضي رحمه الله :
وابتداء هذا الكلام مرويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ كلام وتمَّمه بأحسن تمام ؛ من قوله : « وَلاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ » إلى آخر الفصل .

الشّرْحُ :

وَعْثَاء السفَر : مشقّتُه ، وأصل الوَعْث المكان السّهْل الكثير الدّهس ، تَغِيبُ فيه الأقدام ، ويشقّ على مَنْ يمشي فيه ، أوْعَثَ القوم ، أيْ وقعوا في الوَعثْ . والكآبة : الحزن . والمنقلَب ، مصدر من انقلب منقلَبا ، أي رَجَع ، وسوء المنظر : قُبْح المرأَى .
وصدر الكلام مرويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المسانيد الصحيحة ، وخَتَمه أميرُ المؤمنين عليه السلام وتمّمه بقوله : « ولا يجمعهما غَيْرُك » ، وهو الصحيح ؛ لأنّ مَنْ يُسْتَصْحَبُ لا يكون مستخلَفاً ؛ فإنه مستحيل أنْ يكونَ الشيء الواحد في المكانين مقيما وسائرا ؛ وإنما تصِحّ هذه القضية في الأجسام ؛ لأنّ الجسم الواحد لا يكون في جهتين في وقت واحد ؛ فأمّا ما ليس بجسم وهو البارئ سبحانه ؛ فإنه في كلّ مكان ؛ لا عَلَى معنى أنّ ذاتَه ليست مكانِيّة ؛ وإنما المراد علمه وإحاطتُه ونفوذ حكمه وقضائه وقدَره ؛ فقد صدق عليه السلام أنّه المستخلَف وأنه المستصحب ؛ وأنّ الأمرَيْن مجتمعان له جلّ اسمه .
وهذا الدعاء دَعَا به أمير المؤمنين عليه السلام بعد وَضْع رجله في الركاب ، من منزله بالكوفة متوجّها إلى الشام لحرب معاوية وأصحابه ؛ ذكره نَصْر بن مزاحم في كتاب « صفين» وذكره غيره أيضا من رواة السيرة .

47

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام في ذكر الكوفةكَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِي ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ ، وَتُرْكَبِينَ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
176

وَلاَ مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ .
وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ ، وَلِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلاَءُ ، وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَة ، وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ ، وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ ؛ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ ، وَلاَ تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ ، وَلاَ تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلاَغِ ۱ .

الشّرْحُ :

مُنِي لها الفناء ، أي قُدّر . والجَلاء ، بفتح الجيم : الخروج عن الوطن ، قال سبحانه : « وَلَوْلاَ أنْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاَءَ »۲ .
وحلوة خَضِرة ؛ مأخوذ من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « إنّ الدنيا حُلْوة خَضِرة ، وإنّ اللّه مستخلِفُكم فيها فناظر كيف تعملون » . والكَفاف من الرزق : قَدْر القُوت ؛ وهو ما كَفَّ عن الناس ، أي أغنى . والبلاغ والبُلْغة من العيش : ما يُتَبَلَّغُ به .
واعلم أنّ هذا الفصل يشتمِلُ على فصلين من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، أحدُهما : حَمْد اللّه والثناء عليه إلى قوله : « ولا تُفْقَدُ له نِعْمة » ، والفصل الثاني : ذكر الدنيا إلى آخر الكلام ؛ وهما من خطبتين ؛ وأحدُهما غيرُ مختلط بالآخر ولا مَنْسُوقٍ عليه ؛ ولكنّ الرضيّ رحمه الله تعالى يلتقط كلامَ أمير المؤمنين عليه السلام التقاطا ، ولا يقفُ مع الكلام المتوالي ؛ لأنّ غرضَه ذكرُ فصاحتِه عليه السلام لا غير ، ولو أتى بخُطَبِه كلِّها على وجهها لكانت أضعافَ كتابه الذي جَمَعه .

46

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشاماللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ

1.مقنوط : من القنوط وهو اليأس . مخلوٍّ : من خلا إذا انفرد ومضى ، ترك . مستنكف : من الاستنكاف وهو الاستكبار .

2.سورة الحشر ۳ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86548
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي