521
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

155

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقة الخُفّاشالْحَمْدُ للّه الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ!
هُوَ اللّهُ المَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً ، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّـلاً . خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ ، وَلاَ مَشْوَرَةِ مُشِيرٍ ، وَلاَ مَعُونَةِ مُعِينٍ ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ ، فَأَجَابَ وَلَمْ يُدَافِعْ ، وَانْقَادَ وَلَمْ يُنَازِعْ .
وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِض الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيش الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَيَبْسُطُهَا الظَّـلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ؛ وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا ، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا . وَرَدَعَهَا بِتَـلَأ لُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا ، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بَلَجِ ائْتِلاَقِهَا ، فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا ، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِـمَاس أَرْزَاقِهَا ؛ فَـلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلمَتِهِ ، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ . فَإِذَا ألقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا ، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا ، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارهَا ، أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا ، وَتَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاش فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا . فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً ، وَالنَّهَارَ سَكَناً وَقَراراً ! وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ ، كَأَنَّهَا


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
520

فإن قلت : فلم قال : « فما طاب » ؟ وهلاّ قال : « فمن طاب » ! وكذلك في « خَبُث »!
قلت : كلامه في الأخلاق والعقائد وما تنطوي عليه الضمائر ؛ يقول : ما طاب من هذه الأخلاق والملكات ، وهي خلق النفس الربانيّة المريدة للحقّ ؛ من حيث هو حقّ ؛ سواء كان ذلك مذهب الآباء والأجداد أو لم يكن ؛ وسواء كان ذلك مستقبَحاً مستهجناً عند العامّة أو لم يكن ؛ وسواء نال به من الدنيا حظّا أو لم ينل . يستطيب باطنه يعني ثمرته ؛ وهي السعادة ؛ وهذا المعنى من مواضع « ما » لا من مواضع « من » .
فأمّا الخبر المرويّ ، فإنه مذكور في كتب المحدّثين ؛ وقد فسّره أصحابنا المتكلّمون ، فقالوا : إنّ اللّه تعالى قد يحبّ المؤمن ومحبَّته له إرادة إثابته ، ويبغض عملاً من أعماله وهو ارتكاب صغيرة من الصغائر ؛ فإنّها مكروهة عند اللّه ، وليست قادحة في إيمان المؤمن ؛ لأنها تقع مكفِّرة ؛ وكذلك قد يبغض العبدَ بأن يريد عقابه ؛ نحو أن يكون فاسقاً لم يتب ، ويحبّ عملاً من أعماله ؛ نحو أن يطيع ببعض الطاعات ، وحبّه لتلك الطاعة ؛ هي إرادته تعالى أن يُسقط عنه بها بعض ما يستحقّه من العقاب المتقدّم .

الأصْلُ :

۰.وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً ، وَكُلُّ نَبَاتٍ لاَ غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ ، وَالْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ ؛ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ ، طَابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ ، وَمَا خَبُثَ سَقْيُهُ ، خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمْرَتُهُ .

الشّرْحُ :

السَّقْي : مصدر سَقَيْت ، والسِّقْي ، بالكسر : النصيب من الماء . وأمرَّ الشيء ، أي صار مرّا .
وهذا الكلام مثل في الإخلاص وضدّه وهو الرياء وحبّ السمعة ، فكلّ عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير ؛ فإنه زاكٍ حلو الجنَى ، وكلّ عمل يكون الرياء وحبّ الشهرة مددة ؛ فليس بزاكٍ ، وتكون ثمرته مرّة المذاق .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86540
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي