603
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

180

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام وقد سأله ذِعلب اليمانيّ
فقال : هل رأيتَ ربّك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى ! فقال : وكيف تراه ؛ قال :
لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونَ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ . قَرِيبٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلاَمِسٍ ، بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ ، مُتَكَلِّمٌ بلاَ رَوِيَّةٍ ، مُرِيدٌ لاَ بِهِمَّةٍ ، صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَةٍ . لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ ، كَبِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ ، بَصِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ ، رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ . تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ ، وَتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ .

الشّرْحُ :

الذِّعلب في الأصل : الناقة السريعة ، وكذلك الذِّعلبة ، ثم نقل فسمّي به إنسان ، وصار علما ، كما نقلوا « بكْرا » عن فتى الإبل إلى بن بكْر وائل . واليمانِي مخفّف النون ، ولا يجوز تشديدها ؛ جعلوا الألف عوضا عن الياء الثانية ؛ وكذلك فعلوا في « الشامي » والأصل « يمنيّ وشاميّ » .
وقوله عليه السلام : « أفأعبد ما لا أرى ؟ » ، مقام رفيع جدّا لا يصلح أن يقوله غيره عليه السلام . ثم ذكر ماهيَّة هذه الرؤية ، قال : إنّها رؤية البصيرة ، لا رؤية البصر . ثم شرح ذلك ، فقال : إنّه تعالى قريب من الأشياء ، غير ملامس لها ؛ لأ نّه ليس بجسم ، وإنما قُرْبه منها علمُه بها ، كما قال تعالى : « مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعهُمْ »۱ .
قوله : « بعيد منها غيرُ مباين » ؛ لأ نّه أيضا ليس بجسم فلا يطلَق عليه البينونة ، وبُعْدُه منها هو عبارة عن انتفاء اجتماعه معها ، وذلك كما يصدُق على البعيد بالوضع ، يصدق أفضل

1.سورة المجادلة ۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
602

لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ . وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً ، كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ . وَمَا عَلَيَّ إِلاَّ الْجُهْدُ ، وَلَوْ أَشاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ : عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ!

الشّرْحُ :

المخلد : المائل إليها ، قال تعالى : « وَلكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأَرْضِ »۱ . ولا تنفس بمن نافس فيها : لا تضنّ به ، أي من نافس في الدنيا فإنّ الدنيا تهينه ولا تضنّ به ، كما يضنّ بالعلْق النفيس . ثم قال : « وتغلب مَنْ غلَب عليها » ، أيْ مَنْ غلَب على الدنيا مقاهرة فسوف تغلبه الدنيا وتهلكه . ثم أقسم إنه ما كان قوم في غَضّ نعمة أي في نعمة غضة ، أي طريّة ناضرة ، فزالت عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها ، أي اكتسبوها .
ثم قال عليه السلام : لو أنّ الناس عند حلول النّقم بهم وزوال النعم عنهم يلتجئون إلى اللّه تعالى تائبين من ذنوبهم ؛ لرفع عنهم النقمة ، وأعاد إليهم النعمة . والولَه ، كالتحيّر يحدث عند الخوف أو الوجد . والشارد : الذاهب . قوله : « وإنّي لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة » ، أي في أمر جاهليّة لغلَبَة الضلال والجهل على الأكثرين منهم .
وهذه خطبة خطب بها عليه السلام بعد قتل عثمان في أوّل خلافته عليه السلام ، وقد تقدّم ذكر بعضها ، والأُمور التي مالوا فيها عليه : اختيارهم عثمان ، وعدولهم عنه يوم الشّورى ۲ . وقال : «لئن ردّ عليكم أمركم » أي أحوالكم التي كانت أيام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مِنْ صلاح القلوب والنيّات إنّكم سعداء . والجُهد بالضمّ : الطاقة . ثم قال : لو أشاء أن أقول لقلت ، أي لو شئت لذكرتُ سبب التحامل عليّ وتأخري عن غيري ؛ ولكني لا أشاء ذلك ، ولا أستصلح ذكره .
ثم قال : « عفا اللّه عما سلف » لفظ مأخوذ من الكتاب العزيز « عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَينْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ واللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتقَامٍ »۳ .

1.سورة الأعراف ۱۷۶ .

2.لم يصرّح الإمام عليه السلام بتلك الأُمور . ورأي ابن أبي الحديد ، اختيار عثمان يوم الشورى ، وقال آخر : إنّه إشارة إلى يوم السقيفة . وأمّا قوله عليه السلام : ( عفا اللّه عما سلف ) ، يريد به رجالاً كانوا منحرفين عنه أيام الخلفاء الثلاثة ، ورجعوا إليه عليه السلام في أيام خلافته ، وهم جمع كثير ، ذكرهم الكشي في اختيار معرفة الرجال : ص۳۸ رقم ۷۸ .

3.سورة المائدة ۹۵ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86566
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي