351
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ ، وَيَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ ، فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً ، وَلَكَ مِنْهُمْ شَافِياً ، فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ ، وَإِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَالْجَهْلِ ؛ فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا ، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا ، وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ ، وَسَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ ، فَهَرَبُوا إِلَى الْأَثَرَةِ ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً ، إِنَّهُمْ وَاللّهِ لَمْ يَفِرُّوا مِنْ جَوْرٍ ، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ ، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هذَا الْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللّهُ لَنَا صَعْبَهُ ، وَيُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ ، إِنْ شَاءَ اللّهُ ، وَالسَّلاَمُ عليك وَرحمةُ اللهِ وَبَرَكاتهُ ۱ .

الشّرْحُ:

قد تقدّم نسبُ سَهْل بن حُنيف وأخيه عثمانَ فيما مضى . ويتسلّلون : يَخرُجون إلى معاويةَ هارِبِين في خِفْية واستتار . قال : «فلا تأسَفْ» ، أي لا تحزن . والغَيّ : الضلال . «ولك منهم شافيا » ، أي يكفيك في الانتقام منهم وشفاءِ النّفس من عقوبَتِهم أنّهم يتسلّلون إلى معاوية .
قال : «ارض لمن غاب عنك غَيْبَته» ، فذاك ذَنْبُ عِقابِه فيه . والإيضاع : الإسراع . وَضَعَ البعيرُ أي اسرَعَ ، وأوْضَعَه صاحبُه . ومُهْطِعون : مُسرعون أيضا ، والأثَرَة : الاستئثار ، يقول : قد عَرَفوا أنّي لا أقسِم إلاّ بالسويّة ، وأنِّي لا أنفّل قوما على قومٍ ، ولا أُعطِي على الأحْساب والأنْساب كما فعل غيري ، فتَرَكوني وهَرَبوا إلى مَنْ يَسْتأثِر ويُؤثر . قال : فبُعْدا لهم وسُحْقا ، دعاءٌ عليهم بالبُعْد والهلاك .
ورُوِي أنّهم «لم يَنْفروا» بالنّون ، من نَفَرَ ؛ ثمّ ذكر أنّه راجٍ من اللّه أن يذلّل له صَعْبَ هذا الأمْر ، ويُسهِّل له حَزْنه ؛ والحَزْن : ما غَلُظ من الأرض ، وضِدّه السّهْل .

1.قِبلك : عندك . يتسللون : يهربون . المدد : العون . الأَثَرة : الاختبار والاختصاص .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
350

قال : فأمّا الفرائض فحُكمُها غيُر هذا الحُكم ، عليك أن تقوم بها كرِهَتْها النفسُ أو لم تَكرَهْها . ثمّ أمَرَه أن يقوم بالفريضة في وقتِها ، ولا يؤخّرها عنه فتصيرَ قضاءً .
ومنها قولُه : «وإيّاك أن يَنزِل بك المنون وأنتَ آبِقٌ من ربّك في طَلب الدّنيا » ، هذه وصيّة شريفة جدّا ، جَعَل طالبَ الدّنيا المُعرِضَ عن اللّه عند مَوْته كالعَبْد الآبِق يقدم به على مَوْلاه أسيرا مكتوفا ناكِسَ الرأس ، فما ظنّك به حينئذٍ!
ومنها قولُه : «وإيّاك ومصاحَبَة الفُسّاق ، فإنّ الشرّ بالشرّ مُلحَق» ؛ يقول : إنّ الطباع يَنزِع بعضُها إلى بعض ، فلا تَصحَبنّ الفُسّاق فإنّه يَنزِع بك ما فيك ، من طَبْع الشرّ إلى مساعَدَتهم على الفُسوق والمَعصِية ، وما هو إلاّ كالنّار تَقوَى بالنار ، فإذا لم تُجاوِرْها وتمازِجْها نارٌ كانت إلى الانطِفاء والخمُود أقرب .
ورُوِي «مُلحِق» بكسر الحاء ، وقد جاء ذلك في الخبر النبويّ «فإن عذابَك بالكفّار مُلحِق» بالكسر .
ومنها قولُه : «وأحِبّ أحبّاءه» ، قد جاء في الخبر : «لا يَكمُل إيمانُ أمرئ حتّى يُحبّ مَن أحَبّ اللّه ، ويُبغض من أبغَض اللّه » .
ومنها قولُه: «واحذَر الغَضَب». قال إنسانٌ للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : أوصِني ، قال : «لا تَغْضب »، فقال : زِدْني ، فقال : «لا تغضب» ، قال : زِدْني ، قال : «لا أجدُ لك مَزِيدا » ، وإنّما جعلَه عليه السلام جُنْدا عظيما من جُنودِ إبليس ؛ لأنّه أصلُ الظّلم والقَتْل وإفسادِ كلّ أمرٍ صالح ، وهو إحدى القوّتين المشؤومَتَيْن اللّتين لم يخلق أضرّ منهما على الإنسان ، وهما مَنبَع الشرّ : الغَضَب والشَّهْوة .

70

الأصْلُ:

۰.ومن كتاب له عليه السلام إلى سهل بن حنيف الانصاري
وهو عامله على المدينة ، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية :
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ ، فَـلاَ تَأْسَفْ عَلَى

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 111137
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي