399
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

المطلوب قل المُساعد . وكما قيل :
* طرقُ العلاء قليلة الإيناس *
وأمّا الكلام في الصدق والمروءة والشجاعة والأنَفة والعفّة والغيرة ، فقد تقدّم كثيرٌ منه ، وسيأتي ما هو أكثر فيما بعد إن شاء اللّه تعالى .

46

الأصْلُ:

۰.الظَّفَرُ بالْحَزْمِ ، وَالْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأَيِ ، وَالرَّأَيُ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِ .

الشّرْحُ:

وقال الحكماء : السرّ ضربان : أحدُهما ما يُلقَى إلى الإنسان من حديثٍ ليُستكتَم ، وذلك : إمّا لفظا كقول القائل : اكتُم ما أقولُه لك ، وإمّا حالاً وهو أن يَجْهر بالقول حال انفراد صاحبه ، أو يخفّض صوتَه حيثُ يُخاطِبه ، أو يُخفِيه عن مُجالِسِيه ؛ ولهذا قيل : إذا حدّثك إنسانٌ والتَفَتَّ إليه فهو أمانة .
والضرب الثاني نوعان : أحدُهما أن يكون حديثا في نفسك تَستقبح إشاعتَه ، والثاني أن يكون أمراً تُرِيد أن تفعلَه .
وإلى الأوّل أشارَ النبيّ بقوله : «مَن أتَى منكم شيئا من هذه القاذُورات فليستَتِر بسَتْر اللّه عزّوجلّ» ، وإلى الثاني أشار من قال : «مِنَ الوَهَن والضعْفِ إعلانُ الأمر قبل إحكامه» وكتمانُ الضّرب الأوّل من الوَفاء ، وهو مخصوص بعوامّ الناس ، وكتمام الضرب الثاني من المُروءة والحَزْم ؛ والنوع الثاني من نَوْعيه أخصّ بالملوك وأصحاب السياسات .
قالوا : وإذاعة السرّ من قلّة الصبر ، وضِيق الصّدر ، ويُوصَف به ضَعَفة الرّجال والنّساء والصّبيان. والسبب في أنّه يَصعُب كتمانُ السرّ أنّ للإنسان قوّتين : إحدَاهما آخِذةٌ ، والأخرَى مُعِطيَة ، وكل واحدةٍ منهما تتشوّق إلى فعلِها الخاصّ بها ، ولولا أنّ اللّه تعالى وَكَل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوّد ، فَعَلَى الإنسان أن يُمسِك هذه القوّة ولا يُطلِقها إلاّ حيث يَجِب إطلاقُها، فإنها إنْ لم تُزَمّ وتُخطَم ؛ تقحّمتْ بصاحبها في كلّ مَهلَكة .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
398

أتاه ، وهو العُجْب والتِّيه والإدلال على اللّه تعالى ، فيعود لا مُثابا ولا مُعاقبا ؛ لأنّه يتكافأ الاستحقاقان . ولا ريب أنّ من حَصَل له ثواب التوبة ، وسَقط عنه عقاب المَعصية ؛ خيرٌ ممن خرج من الأمْرَين كَفافا ۱ لا عليه ولا له .

45

الأصْلُ:

۰.قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ ، وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ ، وَشَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ ، وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ .

الشّرْحُ:

قد تقدَّم الكلامُ في كلّ هذه الشِّيَم والخصال ، ثم نقول هاهنا : إنّ كِبَر الهمّة خُلق مختصٌّ بالإنسان فقط ، وأمّا سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك ، وإنما يتجرّأ كلّ نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه ، وعلوّ الهِمة حالٌ متوسِّطة محمودة بين حالتين طرفي رذِيلتين ، وهما الندح ، وتسميه الحكماء التفتُّح ـ وصغر الهمة ـ وتسميه الناس الدّناءة ، فالتفتّح تأهل الإنسان لما لا يستحقه ، وصِغر الهمة تركه لما يستحقه لضعفٍ في نفسه ، فهذان مَذْمومان ، والعدالة وهي الوَسَط بينهما محمودة ، وهي علوّ الهمة ، وينبغي أن يعلم أن المتفتح جاهلٌ أحمق ، وصغيرُ الهمة ليس بجاهل ولا أحمق ، ولكنه دنيءٌ ضعيف قاصر ، وإذا أردت التحقيق ، فالكبير الهمّة من لا يرضى بالهمم الحيوانيّة ، ولا يقنع لنفسه أن يكون عند رعاية بطنه وفرجه ؛ بل يجتهد في معرفة صانع العالم ومصنوعاته ، وفي اكتساب المكارم الشرعية ليكون من خلفاء اللّه وأوليائه في الدّنيا ، ومجاوريه في الآخرة . ولذلك قيل : مَن عظُمتْ همتُه لم يرض بقَيْنة مستردّة ، وحياةٍ مستعارة ، فإن أمكنك أن تقتني قنية مؤبّدة ، وحياة مخلدة ، فافعل غير مكترث بقلّة مَن يَصحبك ويعينك على ذلك فإنه كما قيل : إذا عظم

1.الكفاف من الشيء ، مثله .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 112911
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي