هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم عمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين، وكان من أطول الرجال، وأحسنهم صورة، وأبهاهم، وأجهرهم صوتاً مع الحلم الوافر والسوَدد، وكان العباس في الجاهلية رئيساً في قريش، وإليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية. أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه.

وكان بمكة يكتب إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبار المشركين وكان من بمكة من المسلمين يتقوون به وكان لهم عوناً على إسلامهم، وأراد الهجرة إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : مقامك بمكة خير، فلذلك قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر: من لقي العباس فلا يقتله، فانّه أُخرج كرهاً، و مع ذلك أُخذ منه حين الاَسر عشرون أوقية ذهباً، وأُطلق سراحه.

فقال العباس: يا رسول اللّه: إنّي كنت مسلماً، فنزل قوله سبحانه: (يا أَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ في أَيْديكُمْ مِنَ الاَسرى إِن يَعْلَمِ اللّهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُوَْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (الاَنفال/۷۰).

ثمّ إنّ العباس لما كثر ماله بعد إسلامه أخذ يتفاخر بهذه الآية، ويقول: أعطاني اللّه مكان العشرين أوقية في الاِسلام، عشرين عبداً كلّهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة اللّه.

وممّا يدل على أنّه أسلم قبل الهجرة هو انّه حضر بيعة العقبة في أسفلها، وقال لمن حضر فيها من أهل يثرب: يا معشر الخزرج، قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه، وهو من أعزّ الناس في عشيرته، يمنعه واللّه من كان منّا على قوله و من لم يكن، وقد أبى محمد الناس كلهم غيركم، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب، واستقلال بعداوة العرب قاطبة، فانّها سترميكم عن قوس واحدة، فارتوَوا رأيكم وائتمروا أمركم، فانّ أحسن الحديث أصدقه.

توفي سنة ۳۲ من الهجرة وله ۸۶ سنة.

يقول الذهبي: وله قبة عظيمة شاهقة على قبره بالبقيع.(۱)

وهو من المقلين في الرواية.

جُمِعَتْ أحاديثه في المسند الجامع، فبلغت ۲۱ رواية.(۲)

من روائع رواياته

۱. أخرج مسلم في صحيحه، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب، أنّه سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ذاق طعم الاِيمان من رضى باللّه ربّاً، وبالاِسلام ديناً و بمحمّد رسولاً ».(۳)

۲. أخرج الترمذي، عن عبد اللّه بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت: يا رسول اللّه، علّمني شيئاً أسأله اللّه عزّ وجلّ؟

قال: سل اللّه العافية، فمكثت أياماً، ثمّجئت، فقلت: يا رسول اللّه: علمني شيئاً أسأله اللّه، فقال لي: يا عباس، يا عمّ رسول اللّه: سلوا اللّه العافية في الدنيا والآخرة.(۴)

هذا بعض ما روي عنه من روائع أحاديثه، وعزيت إليه أحاديث أُخرى لا تستقيم مع الضوابط السالفة الذكر.

احاديثه السقيمة

۱. اللّه فوق العرش

أخرج ابن ماجة في سننه، عن الاَحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، قال:كنت بالبطحاء في عصابة، وفيهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فمرّت به سحابة فنظر إليها. فقال ما تسمون هذه؟

قالوا: السحاب، قال: والمزن، قالوا: «والمزن»: قال:«والعنان» قال أبو بكر: قالوا: والعنان، قال: كم ترون بينكم وبين السماء؟ قالوا: لا ندري.

قال: فإنّ بينكم وبينها إمّا واحداً أو اثنين أو ثلاثاً وسبعين سنة، والسماء فوقها كذلك حتى عدَّ سبع سماوات. ثمّ فوق السماء السابعة بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماءٍ. ثمَّ فوق ذلك ثمانية أوعال. بين أظلافهنّ ورُكَّبِهنَّ كما بين سماء إلى سماء، ثمّ على ظهورهنَّ العرش. بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء. ثمّاللّه فوق ذلك تبارك وتعالى.(۵)

إنّ الحديث يخالف القرآن أوّلاً، والعقل الصريح ثانياً.

أمّا الاَوّل، انّ الذكر الحكيم يعرّفه سبحانه موجوداً منزهاً من أن يحويه زمان أو مكان قال سبحانه: (هُوَ الاََوَّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيم) إلى أن قال: (يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الاََرْض وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما ينزل مِنَ السَّماء وَ ما يََعرجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُم وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير) (الحديد/۳ـ ۴).

وقال عزّ من قائل: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمسةٍ إِلاّهُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوََ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم)(المجادلة/۷).

وما تلوناه عليك من الآيات وغيرها صريحة في أنّه سبحانه موجود فوق أن يحوطه زمان ومكان خاص بل الاَزمنة والاَمكنة إليه سواسية، فهو كائن في جميعها وهذه الكينونة لا تعني حلول ذاته في الاَمكنة و الاَزمنة تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، بل المراد حضوره في الكون لاَجل قيام الاَشياء به قيام المعلول بعلته والصورة الذهنية بالنفس بل أدق و ألطف من ذلك، ومعه كيف يصحّ ما في الرواية انّ اللّه فوق العرش؟!

وممّا لا ينقضي منه العجب انّ إمام الحنابلة صار يوَول هذه الآيات بأنّ المراد إحاطة علمه بالاَشياء لا إحاطة وجوده وإلاّ يلزم أن يكون وجوده في الاَمكنة غير النقية والنزيهة.(۶)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره تأويل بلا دليل، ولو قام أحد من المعتزلة أو غيرهم بتفسير الآيات على النحو الذي ذكره إمام الحنابلة، لرُمي بالجهمية.

وأمّا الثاني فلاَنّه سبحانه هو الخالق للعرش، فأين كان قبل أن يخلق العرش؟ وإلاّيلزم قدم العرش كقدمه سبحانه و يلزم منه تعدد القديم، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

۲. أبو طالب في النار

أخرج مسلم في صحيحه، عن عبد اللّه بن الحارث بن نوفل، عن العباس ابن عبد المطلب، انّه قال: يا رسول اللّه، هل نفعتَ أبا طالب بشيء فانّه كان يحوطك ويغضب لك.

قال: نعم، هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الاَسفل من النار.(۷)

إنّ الحديث يخالف الكتاب والسنّة الثابتة، وذلك لاَنّه لو افترضنا انّ أبا طالب مات مشركاً لما قبلت شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّه، والمفروض انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شفّع له فأخرجه من الدرك الاَسفل إلى ضحضاح من نار، مع أنّه سبحانه يقول: (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَة* إِلاّ أَصْحابَ اليَمِين* في جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمينَ* ما سَلَكَكُمْ في سَقَر ) إلى قوله سبحانه: (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعةُ الشّافِعين) (المدثر / ۳۸ ـ ۴۸).

فشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للموَمنين من أُمّته المذنبين منهم لا للمشركين، كيف وقال سبحانه: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيع) (الاَنعام/۷۰).

فالحديث موضوع على لسان أخي أبي طالب ليُغرّ الناس به.

ويكفيك في كون الحديث موضوعاً انّه سبحانه حكى انّ آل فرعون يعرضون على النار صباحاً ومساءً قبل القيامة وبعدها يُدخلون أشدّ العذاب، قال سبحانه: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (غافر/۴۶) و المفروض انّ أبا طالب انتقل إلى عالم البرزخ ولم تقم قيامته بعد، فكيف يدخله سبحانه في الدرك الاَسفل من النار ثمّ يخفف عنه بشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجعل في ضحضاح من نار؟! أوَ كان هو أكثر جرماً من فرعون وآله مع أنّه كان كفيلاً للنبي وناصره طيلة ۴۲ سنة وقد لاقى في سبيل المحافظة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لاقى من المصائب والمتاعب، التي حفظها التاريخ؟!

أضف إلى ذلك ما في السند حيث إنّ عبد الملك بن عمير اللخمي الكوفي الوارد في السند هو الذي طال عمره وساء حفظه.

قال أبو حاتم: ليس بحافظ تغيّر حفظه.

وقال أحمد: ضعيف يغلط.

وقال ابن معين: مخلط.

وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه.

وذكر الكوسج عن أحمد انّه ضعفه جداً.(۸)

ثمّ إنّ الدلائل القاطعة تثبت إيمان أبي طالب، فالرواية كما هي مخالفة للكتاب والسنّة، تخالف أيضاً التاريخ الصحيح.

يقول العلاّمة الاَميني في هذا الصدد: أمّا ما ناء به سيد الاَباطح أبو طالب سلام اللّه عليه من عمل بارّ وسعي مشكور في نصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلاءته والذّب عنه والدعوة إليه وإلى دينه الحنيف منذ بدء البعثة إلى أن لفظ أبو طالب نفسه الاَخير، فكلّها نصوص على إسلامه الصحيح وإيمانه الخالص وخضوعه للرسالة الاِلهية.(۹)

كما أنّ الظاهر من الحديث انّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بهذه الشفاعة وهو في الدنيا مع أنّ الظاهر من حديث آخر انّه سيقوم بها في الآخرة.

أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر عنده عمّه أبو طالب، فقال: لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.(۱۰)

۱. ومن عجيب ما وقفت عليه في سير أعلام النبلاء انّه يقول: وقد صار الملك في ذرية العباس، واستمر ذلك وتداوله تسعة وثلاثون خليفة إلى وقتنا هذا، وذلك ستمائة عام، أوّلهم السفاح وخليفة زماننا، المستكفي له الاسم المنبري والعقد والحل بيد السلطان الملك الناصر أيدهم اللّه (سير اعلام النبلاء: ۲/۹۹ـ۱۰۰).

وجه التعجب هو انّ الذهبي توفي عام ۷۴۸ هـ فكيف يقول (إلى وقتنا هذا و ذلك ستمائة عام) وليس في العبارة ما يفيد انّه ينقل ذلك عن غيره، وقد قضى الوثنيون من المغول على الخلافة العباسية قبل أن يولد الذهبي وذلك عام ۶۵۶ من الهجرة فلاحظ.

۲. المسند الجامع: ۸/۱۲۲ـ۱۳۷ برقم ۳۳۷، وقد راجعنا في ترجمة العباس سير أعلام النبلاء: ۲/۷۸ برقم ۱۱ ؛ أُسد الغابة:۳/۱۰۹.

۳. صحيح مسلم:۱/۴۶، باب من لقي اللّه بالاِيمان.

۴. سنن الترمذي: ۵/۵۳۴ برقم ۳۵۱۴، الباب ۸۵.

۵. سنن ابن ماجة: ۱/۶۹ برقم ۱۹۳. و «أوعال» جمع «وَعِل» وهو تيس الجبل وكأنّها كناية عن الملائكة بصورته، و «إظلاف» جمع «الظِلْف» للبقر والغنم، كالمحفر للفرس.

۶. وعلى ذلك جرى الحنابلة و السطحيون من الاَشاعرة. لاحظ كتاب السنة لاَحمد ۴۷ ؛ و عون المعبود في سنن أبي داود:۱۳/۳۴.

۷. صحيح مسلم: ۱/۱۳۴ـ ۱۳۵، باب شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاَبي طالب.

۸. ميزان الاعتدال: ۲/۱۵۱.

۹. الغدير: ۷/۳۷۰ بتلخيص.

۱۰. صحيح مسلم: ۱/۱۳۵، باب شفاعة النبي لاَبي طالب.