المناجاة - الصفحه 6

وبَعُدَ علَيَّ مَكانُهُ فقلتُ : لَحِقَ بمَنزِلِهِ ، فإذا بِصَوتِ حَزينٍ ونَغمَةِ شَجِيٍّ وهُو يَقولُ : إلهي، كَم مِن مُوبِقَةٍ حَلُمتَ عَن مُقابَلَتِها بنِعمَتِكَ ، وكَم مِن جَريرَةٍ تَكَرَّمتَ عَن كَشفِها بكَرَمِكَ ! إلهي ، إن طالَ في عِصيانِكَ عُمري وعَظُمَ في‏الصُّحُفِ ذَنبي فما أنا مُؤمِّلٌ غَيرَ غُفرانِكَ ، ولا أنا راجٍ غَيرَ رِضوانِكَ . فشَغَلَني الصَّوتُ واقتَفَيتُ الأثَرَ فإذا هُو عليُّ بنُ أبي طالبٍ بِعَينِهِ ، فاستَتَرتُ لِأسمَعَ كلامَهُ وأخمَلتُ الحَرَكَةَ فرَكَعَ رَكعاتٍ في جَوفِ اللَّيلِ الغابِرِ ، ثُمّ فَرَغَ إلَى الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ والبُكاءِ والبَثِّ والشَّكوى‏ ، فكانَ مِمّا ناجى‏ بهِ اللَّهَ عَزَّوجلَّ أن قالَ : اللّهُمّ إنّي اُفَكِّرُ في عَفوكَ فتَهونُ علَيَّ خَطيئتي ، ثُمّ أذكُرُ العَظيمَ مِن أخذِكَ فتَعظُمُ علَيَّ بلِيَّتي . ثُمّ قالَ : آهِ إن قَرأتُ في‏الصُّحُفِ سَيِّئةً أنا ناسِيها وأنتَ مُحصيها فتَقولُ : خُذُوهُ ! فيا لَهُ مِن مَأخوذٍ لا تُنْجيهِ عَشيرَتُهُ ، ولا تَنفَعُهُ قَبيلَتُهُ ، تَرحَمُهُ المَلَأُ إذا أذِنَ فيهِ بالنِّداءِ!
ثُمّ قالَ : آهِ مِن نارٍ تُنضِجُ الأكبادَ والكُلى‏ ، آهِ مِن نارٍ نَزّاعَةٍ للشَّوى‏ ، آهِ مِن غَمرَةٍ في مُلهَباتِ لَظى‏ . ثُمّ أمعَنَ في البُكاءِ فلَم أسمَعْ لَهُ حِسّاً ولا حَرَكةً ، فقُلتُ : غَلَبَ علَيهِ النَّومُ لِطُولِ السَّهَرِ ، اُوقِظُهُ لِصَلاةِ الفَجرِ .
قالَ أبو الدَّرداءِ : فأتَيتُهُ فإذا هُو كالخَشَبَةِ المُلقاةِ ، فحَرَّكتُهُ فلَم يَتَحَرَّكْ وزَوَيتُهُ فلَم يَنزَوِ ، فقُلتُ : إنّا للَّهِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ، ماتَ واللَّهِ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ! فأتَيتُ مَنزِلَهُ مُبادِراً أنعاهُ إلَيهِم ، فقالَت فاطِمَةُ : يا أبا الدَّرداءِ ، ما كانَ مِن شأنِهِ وقِصَّتِهِ ؟ فأخبَرتُها الخَبَرَ ، فقالَت : هِي واللَّهِ يا أبا الدَّرداءِ الغَشيَةُ الّتي تأخُذُهُ مِن خَشيَةِ اللَّهِ تعالى‏ ، ثُمّ أتَوهُ بِماءٍ فنَضَحوهُ على‏ وَجهِهِ فأفاقَ ونَظَرَ إلَيَّ وأنا أبكي ، فقالَ : ما بُكاؤكَ يا أبا الدَّرداءِ ؟ فقُلتُ : مِمّا أراهُ تُنزِلُهُ بنَفسِكَ ، فقالَ : يا أبا الدَّرداءِ ، فكَيفَ لَو رأيتَني وقَد دُعِيَ بِي إلَى الحِسابِ ، وأيقَنَ أهلُ الجَرائمِ بالعَذابِ ، واحتَوشَتني مَلائكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ

الصفحه من 10