73
بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)

الخالية ، وحال دون ذلك النسيم هبوات ۱ وحسرات ، وكانت حركات فسكنت ، وذهب كلّ عالم بما فيه .

فما عيشة إلاّ تزيد مرارةولا ضيقة إلاّ ويزداد ضيقها
فكيف يرقأ دمع لبيب؟! أو يهدأُ طرف مُتوسّم على سوء أحكام الدنيا ، وما تفجأ به أهلها من تصرّف الحالات ، وسكون الحركات! وكيف يسكن إليها من يعرفها وهي تفجّع الآباء بالأبناء؟! وتُلهي الأبناء عن الآباء! تعدمهم أشجان قلوبهم ، وتسلبهم قرة عيونهم .

وترمي قساوات القلوب بأسهموجمر فراقٍ لا يَبوخُ حريقُها۲
وما عسيت أن أصف محن الدنيا ، وأبلغ عن كشف الغطاء ، عما وُكّل به دور الفلك من علوم الغيوب ، ولست أذكر منها إلاّ قليلاً منه أفنته ، أو مغيب ضريح تجافت عنه ، فاعتبره أيّها السامع بهلكات الأُمم ، وزوال النّعم ، وفظاعة ما تسمع وتُروى من سوء آثارها في الديار الخالية ، والرسوم الفانية ، والربوع الصموت . ۳
وكم عالمٍ أفنت فلم تبك شجوةولابد أن تفنى سريعا لحوقها
فانظر بعين قلبك إلى مصارع أهل البذخ ۴ ، وتأمّل معاقل الملوك ، ومصانع الجبّارين ، وكيف عركتهم الدنيا بكلاكل الفناء ، وجاهرتهم بالمنكرات ، وسحبت عليهم أذيال البوار ، وطحنتهم طحن الرحا للحبّ ، واستودعتهم هوج الرياح ۵ ، تسحب عليهم أذيالها فوق مصارعهم في فلوات الأرض .

فتلك مغانيهم وهذي قبورهمتوارثها أعصارها وحريقها۶

1.«الهبوات» جمع الهبوة ، الغبار .

2.«باخ» : سكن وفر ، وباخ النار : خمدت .

3.«الربوع» ـ جمع الربع ـ : الرجل ، النعش ، المنزل .

4.«البذخ» : الكبر .

5.«الهوجاء» : الريح الّتي لا تستوي في هبوبها وتقلع البيوت .

6.في نسخة : «قبورها» بدل «حريقها» .


بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
72

وسمعتُ لو كنت أسمع في أداة فهم ، أو أُنظر بنور يقظه .

وكيلا اُلاقي نكبةً وفجيعةًوكأس مرارات ذُعافا۱أذوقها
وحتّى متى أتعلّل بالأماني ، وأسكن إلى الغرور ، وأعبّد نفسي للدنيا على غَضاضة ۲ سوء الاعتداد من ملكاتها؟ وأنا أعرض لنكبات الدهر عليَّ ، أتربّص اشتمال البقاء ، وقوارع الموت تختلف حكمي في نفسي ، ويعتدل حكم الدنيا .

وهنّ المنايا أيّ واد سلكتهعليها طريقي أو عليّ طريقها
وحتّى متى تعدني الأيّام فتختلف؟! وَأْتَمَنُها فتخون! لا تحدث جدة ۳ إلاّ بخلوق جدة ، ولا تجمعُ شمل إلاّ بتفريق شمل ۴ ، حتّى كأنّها غَيرى ۵ ، محجّبة ضنّاء ، تُغار على الألفة ۶ ، وتُحسد على أهل النّعم .

فقد آذنتني بانقطاع وفُرقةوأومض لي من كل اُفق بُروقها۷
ومَن أقطع عُذرا من مغذّ سيرا ۸ ، يسكن إلى مُعرَّس غفلة ۹
، بأدواء نبوة الدنيا ۱۰ ، ومرارة العيش ، وطيب نسيم الغرور ، وقد أمرت تلك الحلاوة على القرون

1.«ذعاف» ـ بالذال والعين المهملة والفاء ـ : القتل السريع ، ومنه قولهم : «ذعفة» ، إذا قتله قتلاً سريعا ، وقيل : الذعاف كعزاب السمّ .

2.«الغضاضة» ـ جمع غضائض ـ : الذلة والمنقضة .

3.في نسخة : «لا تحدث جديدة إلاّ تخلق مثلها» .

4.في نسخة : «بتفريق بين» ، و«البين» : الفراق والوصل ، ضدّ . والمراد هنا الثّاني ، ويُمكن أن يقرأ بتشديد الياء بأن يكون صفة . (العوالم ، ج ۱۸ ، ص ۱۲۴)

5.«غيرى» ـ بوزن فعلى ـ : من الغيرة .

6.وفي مناقب ابن شهرآشوب «أو محتجبة تُغارُ على آلاف» .

7.«أومض البرق» : لمع خفيفا وظهر .

8.«أغذ في السير» : أسرع .

9.«وعرّس القوم» : نزلوا في السفر ، والموضع : المعرس ـ بتخفيف الراء وتشديده ـ ، يقول الشاعر : كِرامٌ بأرض الغاضرية عَرَّسُوافطابت بهم أرجاء تلك المنازل

10.«النبوة» : ما أرتفع من الأرض ، يقال : هو يشكو نبوة الزّمان : خطبُهُ وجَفْوَته .

  • نام منبع :
    بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
    المساعدون :
    الحائری، جعفر عباس
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1425 ق / 1383 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 227365
الصفحه من 336
طباعه  ارسل الي