79
بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)

(وتوجّع لرزئه إخوانه) ، ثُمّ أقبلوا على جهازه ، وشمّروا لإبرازه كأ نّه لم يكن بينهم العزيز المُفدَّى ، ولا الحبيب المُبدّى .

وضلّ أحبّ القوم كان بقربه۱يحُثّ على تجهيزه ويُبادر
وشمّر من قد أَحْضَروهُ لغسلهوَوُجِّهَ لمّا فاض للقبر حائر
وكُفّن في ثوبين واجتمعت لهمُشَيَّعةً خُوّانه۲والعشائر
فلو رأيت الأصغر من أولاده ، وقد غلب الحزن على فؤاده ، فغشى ۳ من الجزع عليه ، وقد خضّبت الدموع عينيه ۴ ، وهو يَنْدب أباه ويقول : يا ويلاه واحَرَباه ۵ !

لعاينت۶من قبح المنيّة منظرايهالُ لمرآه ويرتاعُ ناظر
أكابر بأولاد يَهيجُ اكتئابُهمإذا ما تناساه البنون الأصاغر
وَرنّة نسوان عليه جوازعمدامِعُها فوق الخدود غوازر۷
ثُمَّ أُخرج من سعة قصره إلى ضيق قبره ، فلمّا استقرّ في اللَّحْد ، وهُيّءَ عليه اللّبن ، احتوشته أعماله ، وأحاطت به خطاياه ، وضاق ذرعا بما رآه ، ثُمَّ حَثَوْا بأيديهم عليه التراب ، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب ، ثُمَّ وقفوا ساعة عليه ، وَأَيّسُوا من النظر إليه ، وتركوه رهنا بما كَسب وطَلب .

فولّوا عليه مُعْوِلين وكلُّهملمثل الّذي لاقى أخوه مُحاذِر
كشاءٍ رتاعٍ۸آمنين بدالهابمديته۹بادي الذراعين حاسر
فريعت۱۰ولم ترتع قليلاًوأجفلت
فلمّا نأى عنها الّذي هو جازر

عادت إلى مرعاها ، وَنَسيت ما في اُختِها دَهاها ، أفبأفعال الأنعام أقتدينا؟ أم على عادتها جَرَيْنا؟ عُد إلى ذكر المنقول إلى دار البلا ۱۱ ، واعتبر بموضعه تحت الثرى ، المدفوع إلى هول ما تَرى .

ثوى مُفردا۱۲في لحده وتوزّعتمواريثه أولاده والأصاهر۱۳
وأحنوا على أمواله يُقسّمونها۱۴فلا حامد منهم عليها وشاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها
ويا آمنا من أن تدور الدوائر

كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة؟ أم كيف ضيّعت حياتك وهي مطيّتك إلى مماتك ؟ أم كيف تشبع من طعامك ۱۵ وأنت منتظر حِمامك ؟ أم كيف تَهْنَأُ بالشهوات وهي مطيّة الآفات ؟ (أم كيف تتهنّأ بحياتك وهي مطيّتك إلى مماتك) ؟

ولم تتزوّد للرحيل وقد دناوأنت على حالٍ وشيكٍ مسافر
فيا لهف۱۶نفسي كم أُسوّف۱۷توبتيوَعُمرِيَ فانٍ والرَّدى۱۸لِيَ ناظر
وكلّ الّذي أَسلفتُ في الصّحف مُثبَتٌ يُجازِى عليه عادلُ الحكم قادر۱۹
فكم ترقع بآخرتك دنياك ؟ وتركب غيّك في ذلك وهواك ؟ أراك ضعيف اليقين ۲۰ ، يا مؤثر الدنيا على الدين ، أبهذا ۲۱ أمرك الرحمن ؟ أم على هذا نزل القرآن ۲۲ ؟ أما تذكر ما أمامك من وَسْدة الحساب ، وشر المآب ؟ أما تذكر حال مَن جَمَع وثمّر ، ورفع البناء وزخرف وعمّر ؟ أما صار جمعهم بوارا ، ومساكنهم قبورا ؟

تُخرِّبُ ما يبقى وَتُعمّرُ فانياولا ذاك موفورٌ ولا ذاك عامر
وهل لك إن وافاك حتْفك بغتةًولم تكتسب خيرا لك اللّه۲۳عاذر
أترضى بأن تَفْنى الحياةُ وتنقضيودينُك منقوصٌ ومالك وافر
فبك يا إلهنا نستجير ، يا عليم يا خبير ، مَن نُؤمّل لِفكاك رقابنا غيرك ، ومَن نرجو لغفران ذنوبنا سواك ، وأنت المتفضّل المنّان ، القائم الديّان ، العائد علينا بالإحسان بعد الإساءة منّا والعصيان ، يا ذا العزّة والسلطان ، والقوّة والبرهان ، وأجِرْنا ۲۴ من عذابك الأليم ، واجعلنا من سكّان دار النعيم ، برحمتك يا أرحم الراحمين . ۲۵

1.في نسخة : «لقُربه» .

2.في نسخة : «إخوانه» .

3.في نسخة : «فيُخشى» .

4.في الصحيفة : «خدّيه» .

5.كلمة يندب بها الميّت ، وتستعمل للتأسّف .

6.في نسخة : «لَأبصرتُ» .

7.في الصحيفة : «غزائر» .

8.«الرّتاع» : الّذي يتتبع بإبله المراتع المخصبة .

9.«المدية» : الشفرة العظيمة ، وفي نسخة : «بمدية» .

10.في نسخة : «فراعت» .

11.في الصحيفة : «إلى الثرى» .

12.في الصحيفة : «هوى مصرعاً» .

13.في نسخة : «أرحامه والأواصر» .

14.في نسخة : «يخصمونها» .

15.في نسخة : «تُسيغ» .

16.في نسخة : «فياويح» .

17.«اُسوف» : اُماطل وأقول مرّة بعد اُخرى ، كما في الصحاح للجوهري .

18.الرّدى : الهلاك والسقوط .

19.في نسخة : «قاهرٌ» .

20.في نسخة : «إنّي لأراك» .

21.في نسخة : «أفبهذا» .

22.في نسخة : «ذلك القرآن» .

23.في نسخة : «لدى اللّه » .

24.في نسخة : «أجرنا» .

25.الصحيفة السجادية ، دعاء ۲۱۴ ، المناجاة المعروفة بالندبة ؛ البلد الأمين ، ص ۳۲۰ ؛ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهرآشوب ، ج۳ ، ص ۲۹۲ ؛ عنه بحار الأنوار ، ج ۴۶ ، ص ۸۲ ؛ البداية والنهاية ، ج ۹ ، ص ۱۰۹ ، رواه عن الحافظ ابن عساكر من طريق محمّد بن عبد اللّه المقري ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهوي . وذكر سنده العلاّمة الحلي في إجازته الكبيرة لبني زهرة المذكورة في بحار الأنوار ، ج ۲۶ ، ص ۲۱ ، ط قديم .


بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
78

طامع في بقائها ، أم كيف تَنامُ عين من يخشى البَياتَ؟ وَتَسْكنُ نَفَسٌ من توقّع جميع أُموره الممات ۱ .

ألا ، لا ولكنّا نَغُرُّ نُفوسناوتَشْغَلُنا اللّذاتُ عمّا نحاذر
وكيف يلذُّ العيش من هو موقنٌبموقفِ عدلٍ يوم تبلى السّرائر
كأنّا نرى أن لا نشور وأنّناسُدَىً ما لنا بعد الممات مصادر۲
وما عسى أنْ يَنالَ صاحبُ ۳ الدنيا من لذّتها ، ويتمتّع به من بهجتها ، مع صنوف عجائبها ، وقوارع فجائعها ، وكثرة عذابه في مَظانها وطلبها ، وما يكابد من أسقامها وأوصابها ، وآلامها ۴ :

أما قد ترى في كلّ يوم وليلةيَروح علينا صرفُها ويُباكر
تُعاوِرُنا۵آفاتها وهمومها
وكم قد نرى يبقى لها المُتغاورُ

فلا هو مغبوطٌ بدنياه آمن
ولا هو عن تِطْلابها النّفسَ قاصرُ

كم قد غرّت الدنيا من مُخلّدٍ إليها ، وصرعت من مُكبٍّ عليها ، فلم تشفه من عثرته ، ولم تنفذه من صرعته ، ولم تشفه من ألمه ، ولم تبرأ من سقمه ، ولم تخلّصه من وصمه . ۶بلى أَوْرَدْتُه بعد عزٍّ وَمَنْعهِ موارِدَ سوءٍ ما لهنّ مصادر
فلمّا رأى أن لا نجاة وأنّه
هو الموت لا يُنجيه منه التّحاذر۷

تَندُّمَ إذا لم تغن عنه ندامةٌ
عليه وأبكته الذّنوب الكبائر

إذ بكى على ما أسلف من خطاياه ، وتحسّرَ على ما خلّف من دنياه ، واستغفر حيث ما لا ينفعه الاستغفار ۸ ، ولا يُنجيه الاعتذار عند هول المنيّة ، ونُزول البليّة .

أحاطت به أحزانه۹وهمومهوَأبْلَس۱۰لما أعجزته المعاذر
فليس له من كُربة الموت فارجوليس له ممّا يُحاذر ناصر
وقد جشأت۱۱خوف المنيّة نفسُهتُردّدها منه اللّهاة۱۲والحناجر
هنالك خَفَّ عنه عَوادهُ ، وأسلمه أهله وأولاده ، وارتفعت الرنَّة والعويل ، ويأسوا من بُرء العليل ، فغمّضوا بأيديهم عينيه ، ومدّوا عند خروج روحه رجليه ، وتخلّى عنه الصديق والصاحب الشفيق .

فكم مُوجَعٍ يبكي عليه تفجّعاومستنجدٍ صبرا وما هو صابر
ومُسترجع داع له اللّه مخلصايُعدِّد منه كلّ خير ما هو ذاكر
وكم شامت مستبشر بوفاتهوعمّا قليل للّذي۱۳
صار صائر

فشقّت جيوبها نساؤه ، ولطمت خدودها إماؤه ، وأعول لفقده جيرانه ،

1.في نسخة : «من يتوقّع الممات» .

2.في نسخة : «بعد الفناء مصائر» .

3.في نسخة : «طالب» .

4.في نسخة : «مع فنون مصائبها ، وأصناف عجائبها ، وكثرة تعبه في طلابها ، وتكادحه في اكتسابها ، وتكابده من أسقامها وأوصابها» . «الوصب» : المرض .

5.في نسخة : «تعاوره» . تعاور القوم فلانا واعتوروه ضربا : إذا تعاونوا عليه ، فكلّما أمسك واحد ضرب واحد ، والتعاون عام في كلّ شيء . (لسان العرب ، ج ۹ ، ص ۱۹۱ ، ط لبنان)

6.في نسخة : «فلم تنعش من صرعته ، ولم تُقِلْهُ من عثرته ، ولم تداوِه من سقمه ، ولم تشفعه من ألمِه» .

7.في نسخة : «الموازر» .

8.في الصحيفة «الاستعبار» بدل «الاستغفار» .

9.في نسخة : «آفاته» .

10.«وابلس» : أي خاب .

11.«جشأت نفسه» : نهضت من حزن .

12.«اللّهاة» : اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم ، جمعها : لهوات ، المنجد . وفي نسخة : «تردّدها دون اللهاة الحناجر» .

13.في نسخة : «كالّذي» .

  • نام منبع :
    بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
    المساعدون :
    الحائری، جعفر عباس
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1425 ق / 1383 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 231029
الصفحه من 336
طباعه  ارسل الي