585
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج3

كان يرى هذا المشهد :
«إنّما حَضَرتُ اغتِرارا بِهذا ، وأراهُ قَد شَكَّ ! ! فَانخَزَلَ بِجَماعَةٍ مِن أصحابِهِ ومالَ إلى ناحِيَةِ أبي أيّوبَ الأَنصارِيِّ» .
ونُذكّر بأنّ جواب صادق آل محمّد صلى الله عليه و آله بشأن الخوارج جدير بالمطالعة والتأمّل . فقد سمّاهم «الشُّكّاك» ، ونبّه أيضا على مواقفهم من الوجهة النفسيّة ، فعن جميل بن درّاج : قالَ رَجُلٌ لِأَبي عَبدِ اللّهِ [الإِمامِ الصّادقِ] عليه السلام :
الخَوارِجُ شُكّاكٌ ؟
فَقالَ : نَعَم . قالَ : كَيفَ وهُم يَدعونَ إلَى البِرازِ ؟
قالَ : ذلِكَ مِمّا يَجِدونَ في أنفُسِهِم ۱ .
والنقطة الملفتة للانتباه في هذا الحوار هي أنّ السائل يجد صعوبة في أن يقرّ بأنّ رجالاً يشهرون سيوفهم ويقاتلون دفاعا عن عقيدةٍ مشوبة بالشّك والارتياب . وجواب الإمام عليه السلام هو أنّهم لا ينطلقون في تحرّكهم من وحي عقيدةٍ راسخة معيّنة ، بل من وحي عواطف باطنيّة دعتهم إلى اتّخاذ مثل ذلك الموقف ، وهذه النقطة شديدة الإثارة للتأمّل والدعوة إلى الاعتبار ، فقد يحدث ـ بل كثيرا ما يحدث ـ أن يقع الإنسان دونما تفكير أسيرا لعواطفه دفعةً واحدة ، في المواطن المثيرة والمواضع التي تحكمها اللحظة الحاضرة إلى درجة يتعطّل معها عقله بغتةً ، وهو يعيش إعصار العاطفة ، فإذا ما سكن هذا الإعصار وهدأت فورته يفهم الراكب موجته ماذا كان فعل ، وكيف فَقَدَ كنزه ! وكلام الإمام عليه السلام يدلّ على أنّ تحرّك المارقين لم يعتمد على عقيدة راسخة . وفيما ذكرناه ـ وفي غيره من الحقائق التي تصدق على حياة بعضهم ـ إنارة وبيان لهذه الحقيقة .

1.تهذيب الأحكام : ج۶ ص۱۴۵ ح۲۵۱ .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج3
584

العقل مقياس الأعمال

إنّ التعقّل ، والانطلاق من العقل في العمل ، وقياس السلوك بالفكر والتفكّر كلّ اُولئك في غاية الأهميّة من منظار الدين . وللدين تأكيد عجيب في هذا المجال ، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
«ما قَسَمَ اللّهُ لِلعِبادِ شَيئا أفضَلَ مِنَ العَقلِ ، فَنَومُ العاقِلِ أفضَلُ مِن سَهَرِ الجاهِلِ ، وإقامَةُ العاقِلِ أفضَلُ مِن شُخوصِ الجاهِلِ» ۱ .
من هنا ، لا يقام وزن للأعمال التي لا تُمارَس من وحي العقل ، ولا للجهود المنطلقة من الجهل والحمق . وهكذا كان الخوارج في خفّة عقولهم وجهلهم ؛ فإنّهم لم يلجؤوا إلى ركن وثيق في الدين مع جميع ما كانوا عليه من العبادة وقيام الليل . والغريب أنّهم لم يظفروا بمعتقدات راسخة قطّ مع ما عرفوا به من استبسالهم في ساحات الوغى ، وعباداتهم الطويلة ، وتحمّلهم مشقّات في العبادة . وهذا كلّه لم يؤدّ دورا تكامليّا في عقائدهم . وحين سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً من الحروريّة يتهجّد ويقرأ ، قال : «نَومٌ عَلى يَقينٍ خَيرٌ مِن صَلاةٍ في شَكٍّ» ۲ .

عمق جهل الخوارج

إنّ جهل الخوارج مُدهش إلى درجة أنّهم كانوا في مِرْيةٍ وشكّ من أمرهم حتى اللحظات الأخيرة من الحرب التي أوقدوها وزهقت فيها أرواحهم ، بَيدْ أنّهم لم يرعووا عن مكابرتهم . وهذه من النقاط المهمّة في تحليل شخصيّتهم ، أي أنّهم على الرغم من تطرّفهم الشديد في العمل لم يلجؤوا إلى ركن وثيق في العقيدة . وعلى سبيل المثال لمّا هلك أحدهم في النهروان قال : «حَبَّذَا الرَّوحَةُ إلَى الجَنَّةِ» ، فقال قائدهم عبد اللّه بن وهب : ما أدري أإلَى الجَنَّةِ أم إلَى النّارِ ؟ فَقالَ رَجُلٌ مِن بَني سَعد

1.الكافي : ج۱ ص۱۲ ح۱۱ ، المحاسن : ج۱ ص۳۰۸ ح۶۰۹ .

2.نهج البلاغة : الحكمة ۹۷ ، غرر الحكم : ح۹۹۵۸ ، عيون الحكم والمواعظ : ص۴۹۷ ح۹۱۶۳ .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج3
    المساعدون :
    الطباطبائي، السيد محمد كاظم؛ الطباطبائي نجاد، السيد محمود
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الثانية
عدد المشاهدين : 149145
الصفحه من 670
طباعه  ارسل الي