345
منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

إنّه لكلامٌ بليغ، كلام معبّر ، وذو مغزى . إنّ ما نستقبله أمر ذو ألوان شتّى، وله وجوه وأشكال متباينة . . . نستقبل أمواجا تبدأ بعدها العواصف والأعاصير ، والعدل الَّذي اُصِرّ عليه يستتبع صيحات تعلو ، وصرخات تتصاعد هنا وهناك ... .
وكان عليه السلام يريد أن تتمهّد الأرضيّة، ويضع للناس معايير التعامل ومقاييسه، ويعيد الكلام حول الخطوط الأصليّة للحكومة، ويستبين المستقبل ليختار الناسُ سبيلهم بوعي ، ويتّخذوا موقفهم عن بصيرة.
في كلامه عليه السلام ، بعد امتناعه ورفضه في الخطبة المذكورة وفي مواضع اُخرى :
1 . تأكيد على أنّه غير عاشق للرئاسة وليس من طلّابها ؛ فإذا تحدّث عن نفسه، وتأوّه ممّا حدث بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأكّد زعامته وإمامته، فذلك كلّه لتوضيح الحقائق ، وتأكيد المصالح.
وإذا تسلّم زمام الاُمور، ورضي بالخلافة ، فلإقامة الحقّ، وبناء حكومة على النهج الَّذي يعرفه هو ويرتضيه ؛ كي لا يرى أحد أو جماعة أو قبيلة أنّ الإمام عليه السلام مَدين لهم بسبب تعالي صيحاتهم لبيعته ، فيفرضوا عليه أهواءهم وطلباتهم.
2 . تأكيد على أنّ تغييرات قد لحقت بتعاليم الدين، وأنّ الرسالة الإلهيّة بعد نبيّها اُصيبت بداء التبدّلات والتقلّبات. فإذا أخذ بزمام الاُمور فإنّه يكافح التحريفات ويقارعها، ويزيح الستار عن الوجه الحقيقي للدين ، وينفض عنه غبار التحريف. وهذا كلّه يستتبع توتّرات سياسيّة واجتماعيّة.
3 . آيةٌ على معرفة الإمام عليه السلام الدقيقة بالمجتمع وبالنفس الإنسانيّة وخبرته بزمانه. ويدلّ هذا الكلام على أنّه عليه السلام لم ينخدع بانثيال النّاس عليه لبيعته في ذلك الجوّ السياسيّ السائد يومئذٍ . وكان يرى مستقبل حكومته بوضوح ، وكان يعلم جيّدا أنّ الأرضيّة غير ممهَّدة للإصلاحات العلويّة، ولإعادة الاُمّة إلى نهج نبيّها صلى الله عليه و آله وسيرته


منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
344

ولا يَعُون طبيعة عصر الرسالة والسيرة النبويّة، ولا يعرفون عليّا عليه السلام ومنزلته الرفيعة في الدين ودوره وشأنه العظيمين معرفةً صحيحةً.
فما مرّ على الدين خلال ربع قرن، وما ابتُدع من تفسيرات وتأويلات للنصوص الدينيّة، وما ظهر من تغييرات في الأحكام، خاصّة في عهد الخليفة الثالث، كلّ ذلك جعل مبادئ الدين ومقاييسه الصحيحة وأحكامه السديدةَ غريبةً على النّاس ، وهو الَّذي سوّغ للاُمّة ثورتها على عثمان ؛ فقد كان الثوّار يقولون في عثمان: «أحدَثَ الأَحداثَ ، وخالَفَ حُكمَ الكِتابِ» ۱ . وحيث كان يُشتكى من مقتله وسرّ الثورة عليه، يقولون: لأحداثه ۲ .
هذه كلّها رسمت صورةً في الأذهان وأجرت على الألسن صعوبة العمل على أساس الكتاب والسنّة بعيدا عن المجاملات والمداهنات. وكان الإمام عليه السلام يعلم علم اليقين أنّ إرجاع المياه إلى مجاريها يُثير عليه الفتن، وأنّ تطبيق الحقّ يُنهض أصحاب الباطل المعاندين للحقّ. من هنا كان عليه السلام يرفض البيعة ، ويؤكّد رفضه ؛ كي تتمّ الحجّة على المخالفين في المستقبل. وفي إحدى المناسبات قال عليه السلام :
«دَعوني وَالتَمِسوا غَيري ؛ فَإِنّا مُستَقِبلونَ أمرا لَهُ وجوهٌ وأَلوانٌ ، لا تَقومُ لَهُ القُلوبُ ، ولا تَثبُتُ عَلَيهِ العُقولُ . وإنَّ الآفاقَ قَد أغامَت ، وَالمَحَجَّةَ قَد تَنَكَّرَت . وَاعلَموا أنّي إن أجَبتُكُم رَكِبتُ بِكُم ما أعلَمُ ، ولَم اُصغِ إلى قَولِ القائِلِ ، وعَتبِ العاتِبِ ، وإن تَرَكتُموني فَأَنَا كَأَحَدِكُم ، ولَعَلّيٌ أسمَعُكُم وأطوَعُكُمِ لِمَن وَلَّيتُموهُ أمرَكُم ، وأنَا لَكُم وَزيرا خَيرٌ لَكُم مِنّي أميرا» ۳ .

1.تاريخ الطبري : ج۵ ص۴۳ .

2.وقعة صفّين : ص۳۱۹ .

3.نهج البلاغة : الخطبة ۹۲ .

  • نام منبع :
    منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
    المساعدون :
    غلامعلي، مهدي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دار الحديث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1388
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 270907
الصفحه من 987
طباعه  ارسل الي