السنّة بين الكليني والزُّهري - صفحه 128

وكان هذا المعنى هو الدائر على السنة الأوائل ، ومنه ما ورد على لسان أميرالمؤمنين عليه السلام في كلامه لابن عبّاس وهو يوصيه قبل أن يتّجه هذا لمجادلة المُحكّمة في النهروان :
جادلهم بالسنّة ، ولا تجادلهم بالقرآن ؛ فإنّ القرآن حمّالُ معاني .
ولكنّنا رأينا الكلمة نفسها وقد أخذت بعد قليل معنىً آخر ، هو كلّ كلامٍ مرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، حتّى إن كان من خبر الواحد ؛ أي ما من حقّه أن يكون حديثا أو خبرا أو روايةً . ومن المعلوم أنّ النقل إلى هذا المعنى ارتكبه معاوية ، في سياق مشروعه الرامي إلى إنتاج ونشر إسلام سُلطوي ، وعليه بنى شعارَي «أهل السُنّة» و «أهل البدعة» ، وهما هما اللذان ما يزالان معمولاً بهما في أدبيات فريق من المسلمين .
النقل الثالث لمعنى الكلمة حصل في أواخر القرن الأوّل ، حيث جرت إضافة قول وعمل الصحابي إلى مفهوم (السُنّة) ، ثمّ أُضيف إليه أيضا قول وعمل التابعي ، وهذا المفهوم هو المعمول به لدى الفريق نفسه ، وعليه بُني عنوان مجاميع حديث : «سُنن أبي داوود» ، «سُنن ابن ماجة» ، «سُنن النسائي» ، إلخ .
علينا أن نلاحظ هنا أمرا في غاية الأهمّية ، هو أنّ الموقف الرسمي من الحديث نشرا وتدوينا قد اختلف اختلافا بالغا مع كلّ مرحلةٍ من مراحل التطوّر الفعلي للكلمة ، فعندما كانت كلمة «سُنّة» تعني حصرا ما جرى العمل به على أيّام النبيّ صلى الله عليه و آله وما أعلنه إعلانا عامّا مقصودا ؛ أي المعنى الأصلي للكلمة ، فقد نُهي عن روايته ومُنع تدوينه . أمّا عندما شرع معاوية في استخدام الحديث لما ذكرناه ، فقد أصبح الزاد اليومي للناس ، يرويه الرواة وينشره القُصّاص على أوسع نطاق .
وعندما تأسّست حُجّيةُ قول وفعل الصحابي ، بدأ تدوينه بمُبادرةٍ من أعلى موقعٍ رسمي ، وبرعاية أعلى مركزٍ في السلطة ؛ أي الخليفة شخصيّا . فضلاً عن تدويناتٍ سرّية وقفنا عليها في كتابنا رسالة الإمام زين العابدين عليه السلام إلى محمّد بن مسلم الزُّهري .
وهكذا يبدو لنا بكامل الوضوح أنّ اختلاف تلك المواقف إنّما هو ناشىً من

صفحه از 134