56
كتابه عليه السلام إلى معاوية
۰.« مِن عبْد اللّه أميرِ المؤمنينَ عليِّ بن أبي طَالِب إلى معاوية .
أمَّا بَعْدُ ، إنَّ اللّه تَبارَك وتَعالَى ذا الجَلال والإكْرام ، خَلَقَ الخَلْقَ ، واخْتَارَ خِيَرَةً مِن خَلْقِه ، واصْطَفَى صَفْوَةً مِن عِبادِهِ ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، ويَخْتارُ ما كان لَهم الخِيَرةُ سُبْحانَ اللّه وتَعالَى عمَّا يُشْرِكون ، فأمَرَ الأمْرَ ، وشَرَعَ الدِّينَ ، وقَسَّمَ القِسَمَ على ذلِك ، وهو فاعِلُه وجاعِلُه ، وهو الخالِقُ ، وهو المُصْطَفي ، وهو المُشَرِّع ، وهو القاسِمُ ، وهو الفاعل لِما يَشاءُ ، له الخَلْقُ ولَه الأمْرُ ، ولَه الخِيَرةُ والمَشِيَّةُ والإرادةُ ، والقُدْرةُ والمُلْكُ والسُّلطانُ .
أرْسَلَ رَسولَه خِيَرَتَه وصَفْوَتَه بالهُدى ودِين الحقِّ ، وأَنْزَل علَيْه كتابَه فيْه تِبيانُ كلِّ شَيْءٍ من شَرائع دِيْنِه ، فَبَيَّنَه لِقَوْم يَعْلَمون ، وفَرَضَ فيه الفَرائِضَ ، وقَسَمَ فيْه سِهاما أحَلَّ بعْضَها لبعْضٍ ، وحَرَّمَ بعْضَها لبَعْض .
بَيِّنْها يا مُعاوِيَةُ ، إنْ كُنْتَ تَعلَمُ الحُجَّةَ ، وضَرَبَ أمْثالاً لا يَعْلَمُها إلاَّ العالِمُونَ ، فأنَا سائِلُكَ عنْها أوْ بعْضِها إنْ كنْتَ تعْلَمُ ، واتَّخَذَ الحُجَّةَ بأرْبَعَةِ أشْياءٍ على العالَمِينَ ، فمَا هِيَ يا مُعاوِيَةُ ، ولِمَن هِي ؟ .
واعْلَم أنَّهنَّ حجَّةٌ لَنا أهْلَ البَيْت علَى مَن خَالَفَنا ونَازَعَنا وفَارَقَنا وبَغى علَيْنا ، والمُسْتَعانُ اللّه ُ ، علَيْهِ تَوكَّلْتُ ، وعليْه فلْيَتوَكَّلِ المتَوَكِّلون .
وكانت جُمْلَةُ تَبْلِيغِه رِسالَةَ رَبِّه فِيما أمَرَهُ وشَرَعَ وفَرَضَ وقَسَمَ جُمْلَةُ الدِّين ، يقول اللّه : « أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ »۱ ، هي لَنا أهْلَ البَيت ، لَيْسَت لكم .
ثُمَّ نَهَى عن المُنازَعَة والفُرْقَة ، وأمَرَ بالتَّسْلِيم والجَماعَة ، فكُنْتم أنْتم القوْم الَّذِين أقْرَرْتُم للّه ِِ ولِرَسُولِهِ بذلِكَ فأخْبَرَكُم اللّه ُ أنَّ مُحَمَّد ا صلى الله عليه و آله لمْ يَكُ « أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَ لَـكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ »۲ ، وقال عز و جل : « أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَـبِكُمْ »۳ ، فأنْت وشُرَكاؤُك يا معاويَةُ ، القَوْمُ الَّذِينَ انْقَلَبُوا على أعْقابِهِم ، وارْتَدُّوا ونَقَضُوا الأمْرَ والعَهْدَ فيما عاهَدُوا اللّه َ ، ونَكَثُوا البَيْعَةَ ، ولمْ يَضُرُّوا اللّه َ شَيْئا .
ألَمْ تَعْلَم يا معاوِيَةُ ، أنَّ الأئمَّةَ مِنَّا لَيْستْ مِنْكُم ، وقَد أخْبَرَكُم اللّه ُ أنَّ أُولي الأمْرِ المسْتَنْبِطو العِلمَ ، وأخْبَرَكم أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ الَّذي تَخْتَلِفون فيْه يُرَدُّ إلى اللّه وإلى الرَّسول وإلى أُولِي الأمر المُسْتَنْبطي العِلمَ ، فمَن أوْفى بما عاهَدَ اللّه َ عليهِ يَجِد اللّه َ مُوفِيا بعَهدِهِ ، يقول اللّه : « وَ أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّـىَ فَارْهَبُونِ »۴ ، وقال عز و جل : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَ هِيمَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـهُم مُّلْكًا عَظِيمًا »۵ .
وقال للنَّاس بَعدَهم : « فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ »۶ ، فتَبَوَّأ مقْعَدَك من جَهَنَّم « وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا » .۷ ، نَحْنُ آلُ إبراهيم َ المَحسودُون وأنْتَ الحاسِدُ لَنا ، خَلَقَ اللّه ُ آدم َ بيَدِهِ ، ونَفَخَ فيه من رُوحِه ، وأسْجَدَ لَهُ المَلائِكَة َ ، وعَلَّمَهُ الأسماءَ كُلَّها ، واصْطَفاهُ على العالَمِين ، فَحَسدَه الشَّيْطانُ ، فكانَ من الغَاوِين ، ونُوحا حَسَدَه قومُه إذْ قالُوا : « مَا هَـذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ »۸ ، ذَلِك حَسَدَا منْهم لِنُوح أنْ يُقِرّوا لَه بالفَضْلِ وهُو بَشَرٌ ، ومِن بعْدِه حَسَدُوا هُودَا إذْ يَقول قَوْمه : « مَا هَـذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَ لَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ »۹ ، قالوا ذلِك حَسَدا أنْ يُفَضِّل اللّه ُ مَن
يَشاءُ ، ويَخْتَصُّ برَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ ، ومِن قَبْل ذلِك ابْنُ آدَم َ قابِيل قَتَل هابِيل حَسَدا ، فكانَ من الخاسرين ، وطَائِفَةٌ من بَنِي إسرائيل « إِذْ قَالُواْ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَـتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ »۱۰ .
فلَمَّا بَعَثَ اللّه لَهم طالُوت مَلِكا حَسَدُوه وقالوا « أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا »۱۱ ، وزَعَمُوا أنَّهم « أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ » .۱۲ ، كلُّ ذَلِك نَقُصُّ علَيْك مِن أنْباء ما قَدْ سَبَقَ ، وعِنْدَنا تَفْسِيرُه وعِندَنا تَأوِيلُه « وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى »۱۳ ، ونَعْرِفُ فيْكم شِبْهَهُ وأمْثالَهُ « وَ مَا تُغْنِى الْأَيَـتُ وَ النُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ »۱۴ .
وكانَ نَبِيُّنا صلوات اللّه عليه ، فلمَّا جاءَهم كَفَرُوا بِه حَسَدا مِن عنْد أنْفُسِهم أنْ يُنَزِّل اللّه مِن فَضْلِهِ علَى مَن يَشاءُ من عِبادِهِ ، حَسَدا مِن القَوْمِ على تَفْضِيلِ بَعْضِنا على بَعْضٍ .
ألا ونَحْنُ أهْلَ البَيْت ِ ، آلُ إبراهيم َ المَحسودون ، حُسِدْنا كَما حُسِدَ آباؤُنا مِن قَبْلِنا ، سُنَّةً ومَثَلاً ، قال اللّه ـ تعالى ـ : وآلُ إبراهيم ، وآلُ لُوط ، وآلُ عِمران ، وآلُ يَعقوب ، وآلُ موسَى ، وآلُ هَارون ، وآلُ دَاوود ؛ فنَحْنُ آلُ نَبِيِّنا محمَّد صلى الله عليه و آله .
ألَم تَعْلَم يا معاوِيَةُ « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَ هِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ »۱۵ ، ونَحْنُ أُولوا الأرحام ، قال اللّه تعالى : « النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ أَزْوَ جُهُ أُمَّهَـتُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَـبِ اللَّهِ »۱۶ .
نَحْنُ أهلُ البَيْت ٍ اخْتارَنَا اللّه ُ ، واصْطَفانَا ، وجَعَل النُبُوَّةَ فيْنا ، والكتابَ لَنا ، والحِكْمَةَ ، والعلْمَ ، والإيمانَ ، وبَيْتَ اللّه ِ ، ومَسْكنَ إسماعِيل َ ، ومَقامَ إبراهيم َ ؛ فالمُلْكُ لَنا ـ وَيْلَك ـ يا مُعاوِيَةُ ، ونَحنُ أوْلَى بإبراهيم ، ونَحْنُ آلُه وآلُ عِمْران ، وأوْلى بعِمران ، وآلُ لوط ، ونحن أوْلى بلُوط ، وآلُ يَعْقُوب ، ونَحْنُ أوْلى بيَعْقُوب ، وآلُ موسَى ، وآلُ هارون ُ وآلُ داوود ، وأوْلى بهم ، وآلُ محمَّد ، وأوْلى به .
ونَحْنُ أهلُ البَيْت الَّذِي أذَهَب اللّه عَنْهم الرِّجْسَ وطَهَّرَهُم تَطْهِيرا ، ولِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ في خاصَّة نَفْسِه وذُرِّيَته وأهْلِه ، ولِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيَّةٌ في آلِهِ .
ألَمْ تَعْلَم أنَّ إبراهيم َ أوْصَى بابْنَه يَعْقوب َ ، ويَعقوب أوْصى بَنِيْه إذْ حَضَرَه المَوْتُ ، وإنَّ محمَّد ا أوْصى إلَى آلِه سُنَّةَ إبْراهيم والنَبِيِّين ؛ اقْتِداءً بهم ، كمَا أمَرَه اللّه ، لَيس لَك منْهم ولا منْه سُنَّةُ النَبِيِّين ، وفِي هذِه الذُّريَّة الَّتي بعضُها من بَعْضٍ قال اللّه ُ لإبراهِيم َ وإسْماعِيل َ ، وهما يَرْفَعانِ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ : « رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ »۱۷ ، فنَحْنُ الأمَّة المُسْلِمة ، وقالا : « رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ »۱۸ ، فنَحْنُ أهلُ هذِه الدَّعوَة .
ورَسُولُ اللّه ِ مِنَّا ، ونَحنُ منْه ، وبَعْضُنا من بَعْض ، وبَعْضُنا أوْلى ببَعْض فِي الوِلايَة والمِيراثِ « ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »۱۹ .
وعَلَيْنا نَزَلَ الكِتابُ ، وفِينا بُعِثَ الرَّسولُ ، وعَلَيْنا تُلِيَت الآياتُ ، ونَحْنُ المُنْتَحِلُونَ للكتاب والشُّهداءُ علَيْهِ ، والدُّعاةُ إليْهِ ، والقُوّامُ بِهِ ، « فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ »۲۰ .
أفَغَيْرَ اللّه يا معاويَةُ تَبتغِي رَبَّا ، أم غَيْرَ كتابِهِ كتابا ، أمْ غَيْرَ الكَعْبَة ـ بيْتُ اللّه ِ ومَسْكَنُ إسْماعِيل َ ومقامُ أبِينا إبراهيم َ ـ تَبْغي قِبْلَةً ، أمْ غَيْرَ مِلَّتِه تَبْغِي دينا ، أمْ غَيْرَاللّه تَبْغِي مَلِكا ؟
فَقدْ جَعَلَ اللّه ُ ذلِكَ فِينا ، فَقَدْ أبْدَيْتَ عَداوَتَك لَنا وحَسَدَك وبُغْضَكَ ونَقْضَك عَهْدَ اللّه ِ ، وتَحْرِيفَك آياتِ اللّه ِ ، وتَبْدِيلَكَ قولَ اللّه ِ ، قال اللّه ُ لإبراهيم َ : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ »۲۱ ، أفَتَرْغَبُ عن مِلَّتِهِ وقَد اصْطَفاهُ اللّه ُ في الدُّنيا ، وهُوَ في الآخِرة من الصَّالِحين ، أمْ غَيْرَ الحَكَمِ تبغِي حَكَما ، أمْ غَيْرَ المُسْتَحْفِظ منَّا تَبْغِي إماما .
الإمامَةُ لإبراهيم وذُرِّيتِهِ ، والمؤمِنونَ تَبَعٌ لَهُم لا يَرْغَبونَ عَن مِلَّتِهِ ، قال : « فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى »۲۲ .
أدْعُوكَ يا معاويَةُ إلى اللّه ِ ورسولِهِ ، وكتابِهِ ، ووَلِيِّ أمرِهِ ، الحَكيِمِ مِنْ آلِ إبراهيم َ ، وإلَى الَّذِي أقْرَرْتَ بِه ـ زَعَمْتَ ـ إلى اللّه ِ ، والوَفاءِ بِعَهْدِهِ ، « وَمِيثَـقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا »۲۳ ، « وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ »۲۴« مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ »۲۵ ، « وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـثًا
تَتَّخِذُونَ أَيْمَـنَكُمْ دَخَلاَ بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ »۲۶ ، فَنَحْنُ الأُمَّةُ الأرْبى ، « وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ »۲۷ .
إتَّبعْنا واقْتَدِ بِنا ، فإنَّ لَنا آلَ إبراهيم َ على العالَمين مُفْتَرَضٌ ، فإنَّ الأفْئِدةَ مِنَ المُؤمِنينَ والمُسْلِمينَ تَهْوِي إلَيْنا ، وذلِكَ دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِم ، فَهَل تَنْقِم مِنَّا إلاَّ أنْ آمَنَّا باللّه وما أُنْزِل إلَيْنا ، واقْتَدَيْنا ، واتَّبَعْنا مِلَّةَ إبراهيم َ صَلَواتُ اللّه علَيْه وعلَى محمَّد وآلِهِ » . ۲۸