أسباب الحديث النبوي في التراث الإمامي - الصفحه 59

ألف ـ فوائد معرفة سبب ورود الحديث

إنّ لمعرفة أسباب ورود الحديث فوائد جمّة يمكن تلخيص أهمّها فيما يلي:
الأولى: تخصيص العامّ وتقييد المطلق، نحو حديث: (الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف) فإنّه قد يوهم بظاهره أنّ مطلق الفرار من موضعٍ يقع فيه الطاعون إثمه كإثم الفرار من الزحف، لكنّ لمّا ذُكر سبب الحديث عُلم أنّ ذلك مختصّ بمن يكون في الثغور، دون سائر البلاد، كما أخرج الصدوق ابن بابويه رحمه الله في (معاني الأخبار) ۱ بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفرٍعليهما السّلام قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إنّما قال في قومٍ كانوا يكونون في الثغور في نحو العدوّ، فيقع الطاعون فيخلون أماكنهم ويفرّون منها، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ذلك فيهم.
هذا، وقد اختلف الأصوليّون في أن السبب الذي ورد على العامّ هل يكون مخصّصاً له أم لا؟ وهذه مسألة مشهورة، فاختار سيّدنا الشريف المرتضى علم الهدى رحمه الله تعالى في كتابه (الذريعة إلى أصول الشريعة) ۲ أنّ العموم إذا خرج على سببٍ خاصّ لا يجب قصره عليه، وحكى عن قومٍ أنّهُ يجب حمل الكلام على سببه دون ظاهره، وعن آخرين أنّهُ يجب حمله على ظاهره إن أمكن.
قال رحمه الله ۳ : وكلامه ـ يعني النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ ينقسم إلى مطابقٍ للسبب غير فاضلٍ عنه ، وإلى ما يكون أعمّ منه ، والأوّل لا خلاف فيه ، والثاني ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : أن يكون أعمّ منه في الحكم المسؤول عنه ، نحو قوله عليه السّلام ـ وقد سُئل عمّن ابتاع عبداً واستعمله ، ثمّ وجد به عيباً ـ : الخراج بالضمان .
والقسم الآخر : أن يكون أعمّ منه في غير ذلك الحكم المسؤول عنه، نحو قوله عليه السّلام ـ وقد سُئل عن الوضوء بماء البحر، فقال عليه السّلام ـ : هو الطهر ماؤه، الحلّ ميتته ، فأجاب عليه السّلام بما يقتضي شربه، وإزالة النجاسة به، وغير ذلك.
قال رحمه الله : وفي جوابه عليه السّلام مالو لم يعلَّق بالسبب لم يكن مفيداً ولا مستقلاً بنفسه، نحو ما روي عنه عليه السّلام ـ وقد سُئل عن بيع الرطب بالتمر ـ فقال عليه السّلام : أينقص إذا يبس؟ فقيل: نعم، فقال عليه السّلام : فلا إذاً (اهـ ).
وقال الإمام العلامة جمال الدين ابن المطهّررحمه الله في (تهذيب الأصول) ۴ : وأمّا الجواب الأعمّ في محلّ السؤال، فالحقّ أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لقيام المقتضي وهواللفظ الموضوع له،السالم عن كون خصوص السبب مانعاً، لإمكان: اعملوابالعامّ ولاتخصّوه بالسبب،ولأنّ أكثرالوقائع وردت على أسبابٍ خاصّة (اهـ ).
وقال رحمه الله تعالى في (مبادئ الوصول) ۵ : السبب ليس مخصّصاً خلافاً للشافعيّ، لوجود المقتضي للعموم، وهو لفظه، وخصوص السبب لا يصلح للمنع، لأنّه لو صرّح وقال: عليك بالعامّ كان جائزاً، ولأنّ الظهار واللعان وغيرهما، وردت على أسبابٍ خاصّة مع عمومها (اهـ ).
وقال الشيخ الشهيد زين الدين العاملي رحمه الله في (تمهيد القواعد) ۶ : العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب عند أكثر المحقّقين، لأنّه لا منافاة بين ذكر السبب والعموم، وذهب بعضهم إلى أنّ العبرة بخصوص السبب، لأنّه لو لم يكن مخصّصاً لم يكن لذكره فائدة.
وأجيب: بأنّ معرفة السبب من الفوائد (اهـ ).
الثانية: تبيين المجمل، كما في حديث: (إنّ الله عزّوجلّ أنزل ثلاث بركات: الماء والنار والشاة)، فإنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم دخل على أمّ سلمة رضي الله عنها، فقال لها: ما لي لا أرى في بيتكِ البركة؟ قالت: بلى والحمد لله، إنّ البركة لفي بيتي، فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم : إنّ الله عزّوجلّ أنزل ثلاث بركاتٍ ـ الحديث.
فكأنّ لفظ (البركة) كان مجملاً بالنسبة لأمّ المؤمنين رضي الله عنها حيث أجابت بما ذُكر ـ وإن كان جوابها من أرقى الأجوبة، فبيّن لهاصلّى الله عليه و آله و سلّم مراده من البركة التي سأل عنها.
الثالثة: بيان علّة الحكم، كما في حديث: (إنّ الله عزّوجلّ أبى لي زبد المشركين)، فإنّ عياض بن حمار المجاشعيّ لمّا أتى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بهديّة أبى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يقبلها، وقال: يا عياض، لو أسلمتَ لقبلتُ هديّتك، ثمّ قال صلّى الله عليه و آله و سلّم : إنّ الله أبى لي زبد المشركين.
وكما في حديث: (أُخرجوا من مسجدنا، لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكّون) فإنّ فيه بيان علّة الحكم بإخراج أولئك النفر، وهي عدم تزكيتهم أموالهم.
الرابعة: توضيح المشكل، كما في حديث: (إنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى) فإنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مرّ براعي إبلٍ فبعث يستسقيه فأبى، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : اللهمّ أكثر ماله وولده، ثمّ مرّ براعي غنمٍ فبعث إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها وبعث إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بشاةٍ، فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم : اللهمّ ارزقه الكفاف، فأشكل ذلك على بعض الصحابة فقال: يا رسول الله، دعوت للذي ردّك بدعاءٍ عامّتنا نحبّه، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاءٍ كلّنا نكرهه؟ فأوضح له النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ما
أشكل عليه بهذا الحديث.
الخامسة: الترجيح، فقد ذكر الإمام العلامة جمال الدين ابن المطهّررحمه الله في (مبادئ الوصول) ۷ : أنّ حديث ذاكر السبب أولى بالترجيح، وأنّ ذا السبب أولى من غيره، لكنّه قال في (التهذيب) ۸ : يرجّح العامّ المبتدأ على ذي السبب، للخلاف في قصر الثاني على سببه(اهـ ).
وهناك فوائد أخرى يقف عليها المتَتبّع في هذا النوع من الأحاديث، وما ذكرناه هنا إنّما هو على سبيل المثال لا الحصر، والله أعلم.

1.معاني الأخبار: ۲۵۴.

2.الذريعة إلى أصول الشريعة: ۱/۳۰۸، ط . جامعة طهران ـ بتحقيق : أبو القاسم الگرجي.

3.الذريعة: ۱/۳۰۹.

4.تهذيب الأصول: ۴۶ ـ ط حجريّة بطهران ـ سنة ۱۳۰۸هـ .

5.مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ۱۴۶ ـ ۱۴۷ ـ تحقيق عبد الحسين محمّد علي البقّال.

6.تمهيد القواعد القاعدة(۷۸) ـ ملحق بكتاب الذكرى ـ ط حجريّة ـ سنة ۱۲۷۲هـ . والطبعة الحديثة (ص۲۱۶) .

7.مبادئ الوصول: ۲۳۶.

8.تهذيب الأصول: ۹۹.

الصفحه من 105