بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُك كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ المَوْتَ لَوْ أَتَاك أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِك مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِليْك كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لك أَوْ فَنِيتُ. فَإِنِّي أُوصِيك بِتَقْوَى الله ـ أَيْ بُنيَّ ـ وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَةِ قَلْبِك بِذِكْرِهِ، وَالاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَأَيُّ سَبَب أَوْثقُ مِنْ سَبَب بَيْنك وَبَيْنَ الله عَزَّ وجَلَّ ؛ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ! أَحْيِ قَلْبَك بِالمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالحِكْمَةِ، وَذَلّلهُ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ الليَالِي وَالأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ المَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَك مِنَ الأَوَّلِينَ، وَسِرْ في دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ مَا فَعَلُوا عَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا!؟ فَإِنَّك تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دَارَ الغُرْبَةِ، وَكَأَنَّك عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ. فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَك بِدُنْيَاكَ، وَدَعِ القَوْلَ فِي ما لاَ تَعْرِفُ، وَالخِطَابَ فِي ما لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِك عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ، فَإِنَّ الكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الأَهْوَالِ، وَأْمُرْ بالمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِك وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ في الله حَقَّ جَهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْك في الله لَوْمَةُ لاَئم، وَخُضِ الغَمَرَاتِ إلَى الحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَتَفَقَّهْ في الدينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَك الصَبْرَ عَلَى المَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الخُلُقُ التصَبُّرُ، وَأَلْجِى ءْ نَفْسَكَ في الأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّك تُلجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ، وَ مَانِع عَزِيز، وَأَخْلِصْ في المَسْأَلَةِ لِرَبِكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ العَطَاءَ وَالحِرْمَانَ، وَأَكْثِرِ الاسْتِخَارَةَ، وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ عَنْك صَفْحاً، فَإِنَّ خَيْرَ القَوْلِ مَا نَفَعَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ في عِلْم لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْم لاَ يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ. أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْك بِمَا في نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ في رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ في جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْك بَعْضُ غَلَبَاتِ الهَوَى وَفِتَنِ الدنْيَا، فَتَكُونَ كَالصعْبِ النفُورِ، وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالاَْرْضِ الخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَي ء قَبِلَتْهُ،