269
الدنيا و الاخرة في الكتاب و السنة

رابعا ـ الفرق بين الزهد الإسلاميّ والرهبانيّة المسيحيّة

عرفنا أنّ للزهد الإسلاميّ بُعدا باطنيّا وبُعدا ظاهريّا ، وأنّ الزاهد يشعر في داخله بعدم الرغبة في الدنيا ، ويظهر ذلك في الخارج أيضا ، وهنا قد يُطرح سؤال : على ضوء هذا التعريف للزهد الإسلامي ، ما الفرق بينه وبين الرهبانيّة المسيحيّة؟ ولماذا تنهى الروايات والأخبار بشدّة عن الرهبانيّة؟ ۱
للجواب عن هذا السؤال نقول :
إنّ الزهد الإسلاميّ غير الرهبانيّة المسيحيّة ، وإنّ هناك فرقا كبيرا بينهما ؛ إذ أنّ أهمّ مواصفات الزهد الإسلاميّ التي ترجع إليها سائر الخصائص الاُخرى ، هي أنّه يقوم على أساس المنطق والبرهان الواضح ، أمّا الرهبانيّة المسيحيّة فليس لها تبرير علميّ منطقيّ .
إنّ الزهد الإسلاميّ ليس عدم الرغبة في مطلق اللذائذ الدنيويّة وغضّ النظر عنها ، بل هو ـ كما أوضحنا ـ غضّ النظر عن اللذائذ الضارّة وعدم الرغبة فيها ، أمّا الرهبانيّة المسيحيّة فهي تدعو الناس إلى غضّ النظر عن مطلق اللذائذ المادية . وبعبارة اُخرى : قسّم الإسلام اللذائذ الماديّة إلى قسمين : اللذائذ المفيدة ، واللذائذ الضارّة ، والزهد الإسلاميّ لا يشمل اللذائذ المفيدة ، وهذا عين الشيء الذي يدعو إليه العقل والمنطق .
إنّ الإسلام لم يقل إطلاقا : إنّ على الإنسان غضّ النظر وترك اللذائذ المفيدة لحياته ، ولم يدعُ إلى عدم الرغبة فيها ، ولكيلا يشتبه مفهوم الزهد الإسلاميّ مع الرهبانيّة ولصيانة ذلك المفهوم من التحريف ، يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله :

1.راجع : ص ۷۵ (النهي عن الترهّب وتحريم ما أحلّ اللّه ) .


الدنيا و الاخرة في الكتاب و السنة
268

اللغويّ للزهد أنّه يتضمّن معنى القلّة ، وبناءً على هذا فإنّ حقيقة الزهد وإن كانت عدم الرغبة النفسيّة ، لكنّها يجب أن تتجلّى في بساطة العيش ، والحياة الزاهدة ، وعدم الإسراف ، واجتناب مظاهر الترف ، ولا أقلّ من اجتناب المحرّمات .
وعلى هذا الأساس فإنّ الزهد لا يقتصر على الجانب الأخلاقيّ والنفسيّ فحسب ، بل يتضمّن الجانب العمليّ والسلوكيّ أيضا ، والزاهد هو الذي يُعرض عن الدنيا المذمومة نفسيّا إلى جانب إعراضه العمليّ.

ثالثا ـ مراتب الزهد

أشرنا إلى أنّ أدنى مراتب الزهد هو عدم الرغبة النفسيّة مع الاجتناب عن المحرّمات ، أمّا أعلى درجاته فهي النقطة التي تنزاح معها حجب المعرفة بشكل تامّ من أمام نظر القلب ، ويصل فيها السالك إلى مرتبة اليقين ، وبالوصول إلى هذه المرتبة ينكشف للزاهد باطن الدنيا المذمومة وحقيقة غرورها ، وعندها لا يرغب عن الدنيا وحسب ، بل ينفر منها ويبغضها ، كما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله :
عُرِضَت عَلَيهِ الدُّنيا فَأَبى أن يَقبَلَها ، وعَلِمَ أنَّ اللّهَ أبغَضَ شَيئا فَأَبغَضَهُ .۱
وبيّن عليه السلام نفرته من الدنيا المذمومة في كثيرٍ من أحاديثه ، منها قوله :
أمَرُّ عَلى فُؤادي مِن حَنظَلَةٍ يَلوكُها ذو سُقمٍ .۲
وقوله :
أهوَنُ في عَيني مِن عُراقِ خِنزيرٍ في يَدِ مَجذومٍ .۳

1.راجع : ص ۳۶۹ ح ۱۱۶۵ .

2.راجع : ص۱۸۹ ح۵۱۱ .

3.راجع : ص۱۸۹ ح۵۱۰ .

  • نام منبع :
    الدنيا و الاخرة في الكتاب و السنة
    المساعدون :
    الموسوي، السيد رسول
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 387911
الصفحه من 520
طباعه  ارسل الي