وهنا أُمور ينبغي التنبيه عليها
الأوّل :
قوله عليه السلام : « اعلم أنَّ البصرة مَهبِطُ إبليس » أي: موضع هبوطه، وهذا إمَّا أن يكون :
حينما أخرج من الجنَّة ، وأهبط إلى الأرض ، عند قوله تعالى : « فقال فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّـغِرِينَ ».۱
أو لأنَّ البصرة بعيدة عن العلم والعلماء ، ولأجل ذلك صار كأنَّها مهبط إبليس ومأواه ، وفيها فَرَخَ ودَرَجَ .
أو لأنَّها لكثرة المعاصي والفجور والفسوق، صارت كأنَّها مأوى إبليس وموطنه .
أو لأنَّ فيها خواصّ طبيعيَّة، أوجبت كثرة أسباب العصيان ، وصارت كأنَّها مأوى إبليس ، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام ، حينما خرج من البصرة : « الحمدُ للّه ِ الذي أخرَجَني مِن أخبثِ البلادِ وأخْشَنِها تُرابا ، وأسْرعِها خَرابا ، وأقرَبِها من الماء ، وأبْعَدِها من السَّماء ، بها مَغيضُ الماء ، وبها تِسعَة أعْشار الشَّرّ ، وهي مسكنُ الجنِّ » . ۲
أو أنَّها موطن شياطين الإنس، من أعوان الشَّيطان .
[ وقوله عليه السلام : « فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالإحسَان إليهم » أي بعد أن كان حال البصرة ذلك ، من نفوذ إبليس فيهم فتعهدهم بالإحسان ، واحلل عقدة الخوف عنهم ، ودارهم بما تخمد به الفتن ، وتبدِّل به الأضغان والأحقاد، بالحبّ والوداد والمؤانسة والألفة ، ولا تدع مجالاً لوساوس الشَّيطان الرَّجيم ] .
قال ابن الأثير : « حادثوا هذه القلوب بذكر اللّه ، فإنَّها سريعة الدّثور ، أي اجلوها واغسلوا الدَّرن عنها ، وتعاهدوها بذلك . . . » ۳ . ففي المقام أمره الأمير عليه السلام ، أن يجلو قلوب أهلها ، ويغسل دَرَنَ الأحقادِ والضَّغائن ، ورين الوساوس المؤذيةِ المُودِيَةِ عنها بصقال الإحسان وماء البرّ .
والتَنَمُّر على القوم : الغِلظة عليهم، والمعاشرة معهم بأخلاق النَّمر ، والنَّمر : سَبُع معروف ، أصغر من الأسد وأخبث وأجرأ منه ، وتنمّر له :أي تنكّر له وتغيَّر .
والوَغْم ـ بالفتح فسكون ـ : الحَرب والقِتال والتِرَة والذّحل الثَّقيل .
وفي النَّهاية : وفي حديث عليّ عليه السلام : « إنَّ بني تَميم لم يُسبَقوا بِوَغْمٍ في جاهليَّةٍ ولا إسلام » . الوغم : التِرَة ، يعني أنَّهم كانوا أهل بأس وقوَّة وشجاعة وحميَّة ، أي : لا ينبغي التَّنمّر والغِلظة على طائفة بلغوا في البأس والنَّجدة هذه المرتبة .
أو أنَّهم لم يسبقوا بوغم في جاهليَّة ولا إسلام ، أي : لم يسبقهم أحد كان له حِقد وغيظ عليهم، فتنكَّر لهم وغلظ عليهم ، تشفِّيا منهم ونكاية بهم ؛ لقوّتهم وقهرهم .
ويمكن أن يكون المراد : أنَّهم لشجاعتهم يقتحمون ويأخذون بالتّرَة والذّحل ، فلا يجوز تهييجهم، وإثارة غيظهم . ۴
وقوله: « إِنَّ بَنِي تَمِيم ٍ لم يَغِبْ لهم نجْمٌ إلاَّ طَلَعَ لهم آخَرُ » ، كنّى عليه السلام بالنَّجم عن أشراف تميم وساداتهم، الَّذِين يقتدى ويهتدى بهم وبفعالهم ، والمراد : أنَّ بني تميم قوم فيهم من السَّادة العظماء، والرِّجال الكِبار كثيرون ، بحيث لم يمت منهم أحد من عظمائهم، إلاّ طلع فيهم آخر ، فأنار وأضاء .
فكلّ قوم فيهم الرِّجال الكبار، ذوو الفضائل والفواضل ، لا ينبغي الشِّدة والتَّنمّر لهم لوجود هؤلاء ، أو لأنَّ قوما يولد وينشأ فيهم هؤلاء، ينبغي أن يكرموا .
ويبدو أنّ هذه الأسباب هي التي دعت أمير المؤمنين عليه السلام ، أن يحذّر ابن عبّاس منهم، ويأمره بإكرامهم ۵ .
1.الأعراف : ۱۳ .
2.راجع: الجمل : ص۴۲۲ وراجع : مروج الذَّهب : ج۲ ص۳۷۷ .
3.النهاية : ج۱ ص۳۵۱ .
4.راجع : النهاية : ج۵ ص۲۰۹ ، منهاج البراعة : ج۱۸ ص۳۱۰ و۳۱۲ و۳۱۷ .
5.راجع: منهاج البراعة: ج ۱۸ ص ۳۱۶.