الأمر الثَّالث :
قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة :
واعلم أنّ التَّحريض على الجهاد والحضّ عليه ، قد قال فيه النَّاس فأكثروا ، وكلّهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، فمن جيّد ذلك ما قاله ابن نباتة الخطيب :
أيُّها النَّاس . . . هذا آخر خطبة ابن نباتة ، فانظر إليها وإلى خطبته عليه السلام بعين الإنصاف ، تجدها بالنِّسبة إليها كمخنث بالنِّسبة إلى فحل ، أو كسَيْفٍ من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد .
وانظر ما عليها من أثر التّوليد وشين التَّكلُّف وفجاجة كثير من الألفاظِ ، ألا ترى إلى فجاجَةِ قوله : « كأنَّ أسماعَكُم تَمُجُّ ودائِعَ الوَعْظِ ، وكأنّ قلوبَكُم بها استِكبارٌ عَنِ الحِفْظِ » وكذلك ليس يخفى نزول قوله : « تَنُدُّونَ مِن عَدُوِّكُم نَدِيدَ الإبلِ ، وتَدَّرِعُونَ لَهُ مَدارِعَ العَجْزِ والفَشَلِ » وفيها كثير من هذا الجنس إذا تأمّله الخبير عرفه ، ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام . . .
ـ ثُمَّ ذكر قسما من سرقاته ، وتكلّم على تمييز الفصيح عن غيره فقال : ـ ۱ فإن شئت أن تزداد استبصارا ، فانظر القرآن العزيز ، واعلم أنّ النَّاس قد اتفقوا على أنَّه في أعلى طبقات الفصاحة ، وتأمّلْهُ تأمُّلاً شافِيا ، وانظر إلى ما خصَّ به من مزيَّة الفصاحة والبعد عن التَّقعيرِ والتَّقعيب والكلام الوحشي الغريب ، وانظر كلام أمير المؤمنين عليه السلام فإنَّك تَجِدُهُ مُشتقّا من ألفاظِهِ ، ومقتَضَبا مِن معانِيهِ ومذاهبه ، ومحذوَّا به حذوه ، ومسلوكا به في منهاجه ، فهو وإن لم يكن نظيرا ولا ندَّا ، يصلح أن يقال : إنَّه ليس بَعدَهُ كلامٌ أفصح منه ولا أجزل ، ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل ، إلاَّ أن يكون كلامُ ابن عمِّه عليه السلام وهذا أمر لا يعلمه إلاَّ من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصَّناعة ، وليس كلّ النَّاس يصلح لانتقاد الجوهر ، بل ولا لانتقاد الذَّهب ، ولِكُلِّ صناعة أهل ، ولُكلِّ عمل رجال . . . ۲