173
مكاتيب الأئمّة ج2

[ قلت : زياد وما أدراك ما زياد ، الدَّعي اللَّعين الفاجر السَّفَّاك ، هو ابن عبيد ، وابن سميَّة دعيّ أبي سُفْيَان ، كان يكنَّى أبا المُغِيْرَة ، وسُمَيَّة هي جارية الحارث بن كلدة ، وكان يطؤها بملك اليمين . والعجب من الشَّارح الآملي حيث قال : هو زياد بن أبي سُفْيَان تبعا لأبي عمر في الاستيعاب ، وابن سَعْد في الطَّبقات في مواضع كثيرة ، وليس منهما بعجب ، وفي أُسْد الغابَة : زياد بن سُمَيَّة ، وفي القاموس : زياد بن عبيد ، والأمر سهل ] .
قال ابن أبي الحديد : والأكثرون يقولون : إنَّ عبيدا كان عبدا ، وإنَّه بقي إلى أيّام زياد ، فابتاعه وأعتقه ، وسنذكر ما ورد في ذلك ، ونسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه ، والدعوة الَّتي استلحق بها ، فقيل تارةً زياد بن سُمَيَّة ، وهي أُمّه ، وكانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثَّقَفيّ ، طبيب العرب ، وكانت تحت عبيد . وقيل تارةً زياد ابن أبى ، وقيل تارةً زياد بن أمّ ، ولمَّا استُلحِقَ قال له أكثر الناس زياد بن أبي سُفْيَان ، لأنَّ النَّاس مع الملوك الَّذِين هم مظنَّة الرَّهبة والرَّغبة ، وليس أتباع الدِّين بالنِّسبة إلى أتباع الملوك ، إلاّ كالقطرة في البحر المحيط ، فأمَّا ما كان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد ، ولا يشكّ في ذلك أحد . ۱
وقد ولد عام الهجرة ، أو قبلها ، وليست له صحبة ولا رواية ( أُسْد الغابَة والاستيعاب ) ، وقال في الإصابة : ذكره أبو عمر في الصَّحابة ، ولم يذكر ما يدلّ على صحبته ، ويزعم آل زياد أنَّه دخل على عمرو ، له سبع عشرة سنة . وأخبرني زياد بن عثمان أنَّه كان له في الهجرة عشر سنين ، وقيل ولد عام الفتح ، وقيل ولد عام الهجرة ، وقيل قبل الهجرة . ۲
كانت أمّه من البغايا بالطائف ۳ ، وكان زياد كاتبا لسَعْد بن أبي وَقَّاص في قرب القادسيّة ، ۴ وقاسماً في فتح الأبِلَّة ، وكان له أربع عشرة سنة ، ۵ استعمله عمر على بعض أعمال البصرة أو صدقاتها ، وقيل استخلفه أبو موسى الأشْعَرِيّ ، وكان كاتبا له . ۶ وكان أحد الشُّهود على المُغِيْرَة بن شُعْبَة ، فلم يشهد ، وكان عاقلاً في دنياه ، داهية خطيبا ، له قدر وجلالة عند أهل الدُّنيا . ۷
وبعث عمر زيادا لإصلاح فسادٍ وقع باليمن ، فرجع من وجهه ، وخطب خطبة لم يُسمع النَّاس مِثْلها ، فقال عَمْرو بن العاص : أما واللّه ، لو كان هذا الغلام قرشيّا لساق العرب بعصاه ، فقال أبو سُفْيَان : واللّه ، إنِّي لأعرف الَّذي وضعه في رحِم أمّه .
فقال عليّ بن أبي طالب : « ومن هو يا أبا سُفْيَان ؟ » .
قال : أنا .
قال : « مهلاً يا أبا سُفْيَان » .
فقال أبو سُفْيَان :
أما واللّه ِ لَولا خَوْفُ شَخْصٍيَراني يا عَلِيُّ مِنَ الأعادِي
لَأَظْهَرَ أمرَهُ صَخْرُ بنُ حَرْبٍولَم يَخَفِ المَقالَةَ فِي زِيادِ
وَقَدْ طالَتْ مُجامَلَتِي ثَقِيفاوتَرْكِي فِيهِمُ ثَمَرَ الفُؤادِ۸
وقيل : قدم زياد من تُستَر من عند أبي موسى على عمر ، فأمر أن يتكلَّم ويخبر النَّاس بفتح تُستَر ، فقام وتكلَّم فأبلغ ، فعجب النَّاس ، وقالوا : إن ابن عبيد لخطيب ، فقال أبو سُفْيَان ،ما أقره في رحم أُمّه غيري . ۹
وقد اعتزل زياد حرب الجمل ، ولم يشهدها ، فجاء عبد الرَّحمن بن أبي بكرة إلى أمير المؤمنين عليه السلام في المستأمنين ، فقال عليه السلام :
« وَعمّك القاعِدُ المُتربِّصُ بِي وعَمُّك المُتَربِّصُ المُتقاعِدُ بي » .
فقال : واللّه يا أمير المؤمنين ، إنَّه لك لوادّ ، وأنَّه على مسرّتك لحريص ، ولكنَّه بلغني أنَّه يشتكي ، فلمَّا مشى إليه عليّ ودخل عليه ، قال :
« تقاعدتَ عنِّي ، وتربَّصْتَ بي » ، ووضع يده على صدره ، وقال :
« هذا وجع بيّن » .
فاعتذر إليه زياد ، فقبل عذره ، واستشاره ، وأراده عليٌّ على البصرة ، فقال :
رجل من أهل بيتك يسكن إليه النَّاس ، فإنَّه أجدر أن يطمئنّوا أو ينقادوا ، وسأكفيكه وأشيرُ عليه ، فافترقا على ابن عبَّاس ، ورجع عليٌّ إلى منزله . ۱۰ وزاد الطَّبري أنَّه عليه السلام وَلَّي زيادا الخَراج ، وأمر ابن عبَّاس أن يسمع منه ، مع أنَّ الطَّبري صرَّح ۱۱ بأنَّ ابن عبَّاس لمَّا شَخص إلى الكوفة استعمل زيادا على الخَراج ، وصرّح ۱۲ بأنَّ الصَّدقات والجند والمعادن كانت لابن عبَّاس أيَّام ولايته ، والَّذي أظنّ أنَّ هذه الزِّيادة الَّتي اختصَّ بها الطَّبري ، قد وردت في ذيل رواية سيف بالسند المعروف ، ولم يذكر ذلك ابن أبي الحديد ، ولا ابن حَجَر ، ولا ابن الأثير ، ولا أبو عمر ، وأوَّل عمل عمل لأمير المؤمنين عليه السلام هو ما كان باستخلاف ابن عبَّاس له على البصرة ، لمَّا قتل محمَّد بن أبي بكر ، وخرج ابن عبَّاس إلى الكوفة معزّيا ، ووقعت فتنة ابن الحَضْرَمِيّ وقتئذٍ كما تقدَّم . ۱۳
وفي أنساب الأشراف : إنَّ عليَّا عليه السلام ضمّ زيادا إلى ابن عبّاس كاتبا ، وأنَّ ابن عبَّاس ولاّه على الخَراج . ۱۴
ولمَّا قتل عليّ عليه السلام أهلَ النَّهروان خالَفَه قوم كثير ، ومنهم بنو ناجية ، وانتقضت عليه أطرافه ، وانتقض أهلُ الأهواز ، وطَمِع أهلُ الخَراج في كسره ، ثُمَّ أخرجوا سهل بن حُنَيف من فارس ، وكان عامل عليٍّ عليها ، فقال : ابن عبَّاس لعليّ أنا أكفيك فارسَ بزياد ، فأمره عليٌّ أن يوجّهه إليها فقدِم ابن عبَّاس البصرةَ ، ووجَّهه إلى فارس في جمع كثير ، فوطئ بهم أهل فارس ، فأدَّوا الخَراج . ۱۵ وكان ذلك سَنَة 39 ه . ق كما في تاريخ الطَّبري . ۱۶ فكتب عليّ عليه السلام إليه هذا الكتاب يتهدّده ويتوعّده .
ولمَّا قدِم زياد فارس ، بعث إلى رؤسائها ، فوعد مَن نصرَه ومنَّاه ، وخوَّف قوما وتوعَّدهم ، وضرب بعضَهم ببعض ، ودلّ بعضَهم على عورة بعض ، وهربتْ طائفة ، وأقامت طائفة ، فقتل بعضُهم بعضا ، وصفَتْ له فارس ، فلم يَلْقَ فيها جمعا ولا حَرْبا ، وفعل مثلَ ذلك بكرْمان ، ثُمَّ رجع إلى فارس ، فسار في كُوَرِها ومنَّاهم ، فسَكَن النَّاس إلى ذلك ، فاستقامت له البلاد ، وأتى إصْطَخْرَ فنزلها ، وحصَّن بها قلعةً تُسمَّى قلعةَ زياد . ۱۷ وقد قتل عليّ عليه السلام وهو بها . ۱۸
وفي تلكم المدّة كتب معاوية إلى زياد بالتَّهديد إن لم يطعه ، فلمَّا وصل الكتاب إليه خطب فقال : العجب من ابن آكلة الأكباد ، ورأس النِّفاق يهدّدني ، وبيني وبينه ابنُ عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وزوج سيّدة نساء العالمين ، وأبو السِّبطين ، وصاحب الولاية والمنزلة والإخاء ، في مئة ألف من المهاجرين والأنصار والتَّابعين لهم بإحسان .
أمَا واللّه ، لو تخطّى هؤلاء أجمعين إليّ لوجدني أحْمَر مِخشَّا ضرَّابا بالسَّيفِ ، ثُمَّ كتب إلى عليّ عليه السلام وبعث بكتاب معاوية إليه .
فلمَّا وقف عليّ عليه السلام على الكتاب كتب إليه . . . ۱۹ .
فلمَّا قرأ زياد كتاب أمير المؤمنين عليه السلام وفيه « وإنَّما كانَتْ مِن أَبي سُفْيَانَ فَلتَةٌ زمَنَ عُمَرَ ، لا تَستَحِقُّ بِها نَسَبا ولا مِيراثا ، وإنَّ مُعاوِيَةَ يأتي المَرءَ مِن بَينِ يَديْهِ وخَلْفِهِ فاَحذَرهُ ، والسَّلامُ » ؛ قال : شهد لي أبو حسن وربّ الكعبة .۲۰
ولمَّا قتل أمير المؤمنين عليه السلام بايع زياد الحسن عليه السلام ، ولكنَّه ما لبث أن نكث حيث كان شقيَّا وفاسقا متعدِّيا طاغيا متهتّكا ، لا دين له ولا تقوى ، ولذلك صدر منه في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بفارس والبصرة ، ما أوجب أن يكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام . وإنَّما كان يَتَّقِي غضب أمير المؤمنين عليه السلام ومؤاخذته ، ولم يكن يرجو من معاوية إجابة أو عطفا إليه لو أنَّه خرج إليه ، إذ لم يكن لعبيد ولا لبنيه في المجتمع شأن يذكر حَتَّى يميل إلى معاوية ، ويترك عليَّا عليه السلام ، فلمَّا قتل أمير المؤمنين عليه السلام ، واستماله معاوية ، مال إليه رجوعا إلى أصله وميلاً إلى سنخه ، والنَّاس معادن كمعادن الذَّهب والفضة ، « ثُمَّ كَانَ عَقِبَةَ الَّذِينَ أَسَئواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِـئايَـتِ اللَّهِ وَ كَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ »۲۱ .
استماله معاوية واستلحقه بأبي سُفْيَان في قِصَّةٍ مشهورة ، ذكرها المُؤرِّخون . ۲۲ وكان ذلك في سَنَة أربع وأربعين ، رغما لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « الولَدُ لِلفِراشِ ، وللعاهِرِ الحجَرُ » ، ولذلك هجره أخوه أبو بكر ولم يكلّمه ، وصار ذلك سُبّة على معاوية ، وزياد عند المسلمين ، وهجاه الشُّعراء بحيث اضطرَّ زياد إلى تأليف كتاب المثالب ، ودفعه إلى ولده حَتَّى يدافعوا به عن حسبهم .
وردَّهُ معاوية إلى عمله إلى سَنَة خمس وأربعين ، ثُمَّ بعثه عاملاً على البصرة وخراسان وسجستان ، ثُمَّ جمع له الهند والبَحرين . ۲۳ وقَتل حين ورد البصرة سبعمئة إنسانٍ في ليلة واحدة ، ثُمَّ أخذ في قتل الشِّيعة ، ومحبّي أمير المؤمنين عليه السلام تحت كُلِّ حَجَر ومَدَر ، بِكُلِّ ظنّه وتهمة ، ثُمَّ جمع له الكوفة أيضا ، وجعل على البصرة سمرة بن جُنْدُب ، فكان يقيم ستة أشهر بالكوفة ، وستة بالبصرة ، وقتل سمرة إلى أن عاد زياد ثمانية آلاف . ۲۴
قال ابن أبي الحديد ، ونعم ما قال : قلت : قبّح اللّه زيادا ، فإنَّه كافأ إنعام عليّ عليه السلام وإحسانه إليه ، واصطناعه له بما لا حاجة إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته ومحبّيه ، والإسراف في لعنه ، وتهجين أفعاله ، والمبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه ، ولم يكن يفعل ذلك لطلب رضا معاوية ، كلاّ بل يفعله بطبعه ، ويعاديه بباطنه وظاهره ، وأبى اللّه إلاّ أن يرجع إلى أمّه ، ويصحّح نسبه ، وكلّ إناء ينضح بما فيه ، ثُمَّ جاء ابنه بعد ، فختم تلك الأعمال السَّيِّئة بما ختم ، وإلى اللّه تُرجع الأمور . ۲۵
وهو الَّذي فعل بحُجْر بن عَدِيّ وأصحابه رضوان اللّه عليهم ما هو معروف ، من أخذهم وتقييدهم وإرسالهم إلى معاوية مع شهادة مزوّرة ، وهو الَّذي كتب إلى معاوية في حقّ الحَضْرَمِيَّين ، أنَّهم على دين عليٍّ وعلى رأيه ، فكتب إليه معاوية اقتل كُلّ من كان على دين عليٍّ ورأيه ، فقتلهم ومثّل بهم . ۲۶
وقال زياد في خطبته البتراء : وإنِّي أقسم اللّه لآخُذَنَّ الوليَّ بالوليّ ، والمقيم بالظَّاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصَّحيح منكم بالسقيم . ولقد عمل بما قال ، وزاد ثُمَّ زاد ، زاده اللّه من عذابه الأليم .
وقد أخذ ليلة أعرابيا ، فأدخل عليه ، فقال له زياد : هل سمعتَ النِّداء ؟
قال : لا واللّه ، قدمتُ بحَلوبة ۲۷ لي ، وغشيَني اللَّيلُ ، فاضطررتْها إلى موضع ، فأقمتُ لأُصبِحَ ، ولا علمَ لي بما كان من الأمير .
قال : أظنّك واللّه ِ صادقا ، ولكنَّ في قتلك صَلاحَ هذه الأمَّة ، ثُمَّ أمر به فضُربت عُنقُه . ۲۸
روى ابن الكلبي : أنَّ عَبَّادا استلحقه زياد ، كما استلحق معاوية زيادا . ۲۹
فكتب الحسنُ بن عليّ عليه السلام إلى زياد :
« أمَّا بعدُ ؛ فإنَّك عَمَدتَ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسلمِينَ لَهُ ما لَهم ، وعَليهِ ما عَليْهِم ، فهَدَمتَ دارَهُ ، وأخَذْتَ مالَهُ ، وحَبَستَ أهلَهُ وعِيالَهُ ، فإن أتاكَ كِتابِي هذا فابنِ لَهُ دارَهُ ، واُردُدْ عَليْهِ عِيالَهُ ومالَهُ ، وشفِّعْنِي فيهِ ، فَقَد أجَرْتُهُ ، والسَّلامُ » .

فكتب إليه زياد :
من زياد بن أبي سُفْيَان إلى الحسن بن فاطمة ، أمَّا بعدُ ، فقد أتاني كتابُك تبدأ فيه بنفسك قبلي ، وأنت طالب حاجة ، وأنا سلطان وأنت سُوقة ، وتأمرني فيه بأمرِ المطاع المسلّط على رعيّته . كتبت إليَّ في فاسق آويته ، إقامةً منك على سوء
الرَّأي ، ورِضا مِنكَ بِذلِكَ ، وايمُ اللّه ِ لا تَسبِقُني بهِ ، ولو كان بين جِلدِكَ ولَحْمِكَ ، وإن نلت بَعْضَكَ غَيرَ رَفِيقٍ بِكَ ولا مُرْعٍ عَلَيكَ ، فإنَّ أحبَّ لَحمٍ عَلَيَّ أن آكُلَهُ لَلَّحمُ الَّذي أنت مِنهُ ، فَسَلّمهُ بِجرَيرَتِهِ إلى مَن هُوَ أولَى بِهِ مِنْكَ ، فإن عَفَوتُ عَنهُ لم أكُنْ شفّعتُكَ فيهِ ، وإن قَتَلتُهُ لم أقتلْه إلاّ لِحُبّهِ أباكَ الفاسِقَ ؛ والسَّلام .
فلمَّا ورد الكتاب على الحسن عليه السلام ، قرأه وتبسَّم ، وكتب بذلك إلى معاوية ، وجعل كتاب زياد عِطفه ، وبعثَ به إلى الشَّام ، وكتب جواب كتابه كلمتين لا ثالِثَةَ لَهُما :
« مِنَ الحَسَنِ بنِ فاطِمَةَ إلى زيادِ بنِ سُمَيَّةَ ، أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : الوَلدُ للفرِاشِ وللعاهِرِ الحجرُ ، والسَّلامُ » .
فلمَّا قرأ معاويةُ كتابَ زياد إلى الحسن ضاقت به الشَّام ، وكتب إلى زياد :
أمَّا بعدُ ، فإنَّ الحسن بن عليّ بعث إليَّ بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه إليك في ابن سَرْح ، فأكْثَرتُ العجَبَ مِنكَ ، وعَلِمتُ أنَّ لكَ رأيينِ : أحدُهما من أبي سُفْيَان ، والآخرُ مِن سُمَيَّةَ . فأمَّا الَّذي من أبي سُفْيَانَ فحِلْمٌ وحزمٌ ، وأمَّا الَّذي من سُميَّة فما يكون من رأي مِثلها ! من ذلك كتابك إلى الحسن تَشُتم أباه ، وتُعرِّض له بالفسق ، ولَعَمرِي إنَّك الأولى بالفِسقِ مِن أبيهِ .
فأمَّا أنَّ الحسنَ بدأ بنفسه ارتفاعا عليك ، فإنَّ ذلك لا يضعك لو عقلت ، وأمَّا تسلّطه عليك بالأمر فحقّ لِمثل الحسن أن يتسلّط ، وأمَّا تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك ، فحظٌّ دفعتَه عَن نَفسِكَ إلى مَن هُو أولى بهِ مِنكَ .
فإذا ورد عليك كتابي فخَلّ ما في يديْكَ لسَعِيد بنِ أبي سَرْحٍ ، وابن لَهُ دارَهُ ، واردُدْ علَيهِ مالَهُ ، ولا تعرض له ، فقد كتبتُ إلى الحسن أن يخيّره إن شاء أقام عنده ، وإن شاء رجع إلى بلده ، ولا سلطان لك عليه ، لا بيدٍ ولا لسان .
وأمَّا كتابك إلى الحسن ، باسمه واسم أُمّهِ ، ولا تَنسُبه إلى أبيه ، فإنَّ الحسن وَيحك ! من لا يُرمَى بهِ الرَجَوان ، وإلى أيّ أمّ وَكْلته لا أمَّ لك ! أمَا علمتَ أنَّها فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فذاك أفخر لَهُ لو كنتَ تَعلَمه وتعقُله ! وكَتَب في أسفل الكتاب شعرا ، من جملته :
أمَا حَسَنٌ فابنُ الَّذي كانَ قَبْلَهُإذا سارَ سارَ المَوتُ حَيثُ يَسيرُ
وهَلْ يَلِدُ الرِئْبالُ إلاَّ نَظِيرَهُوذا حَسَنٌ شِبْهٌ لَهُ ونظيرُ
ولكنَّهُ لَو يُوزَنُ الحِلمُ والحجابأمرٍ لقالُوا يَذْبُلٌ وثَبِيرُ۳۰
وفي سَنَة ثلاث وخمسين ، هلك زياد بن أبى بالكوفة في شهر رمضان ، وكان يكنَّى أبا المُغِيْرَة ، وقد كان كتب إلى معاوية أنَّه قد ضبط العراق بيمينه وشماله فارغة ، فجمع له الحجاز مع العراقين ، واتصل خبر ولايته بأهل المدينة فاجتمع الصَّغير والكبير بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وضجّوا إلى اللّه ، ولاذوا بقبر النَّبيّ صلى الله عليه و آله ثلاثة أيَّام لعلمهم بما هو عليه من الظُّلم والعسف ، فخرجت في كفّه بثرة فحكّها فسرت واسودَّت ، فصارت آكلة سوداء ، فهلك بذلك ، وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وقيل اثنتين وأربعين ، ودفن بالثّوبة من أرض الكوفة .
وقد كان زياد جمع النَّاس بالكوفة بباب القصر يحرّضهم على لعن عليّ عليه السلام ، فمن أبى ذلك عرضه على السَّيف ، فذكر عبد الرَّحمن بن السَّائب ، قال : حضرت فصرت إلى الرُّحبة ومعي جَماعة من الأنصار ، فرأيت شيئا في منامي وأنا جالس في الجماعة ، وقد خفقتُ ، وهو أنّي رأيت شيئا طويلاً قد أقبل ، فقلت : ما هذا ؟ فقال : أنا النّقاد ذو الرَّقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر ، فانتبهت فزعا فما كان إلاّ
مقدار ساعة ، حَتَّى خرج خارج من القصر ، فقال : انصرفوا فإنَّ الأمير مشغول عنكم ، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء . ۳۱
وكتب الحسين عليه السلام كتابا إلى معاوية وفيه :
« أو لستَ المدَّعي زيادا في الإسلام ، فزعمت أنَّه ابن أبي سفيان ، وقد قضى رسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أنَّ الولدَ للفراشِ ، وللعاهِرِ الحَجرُ . ثُمَّ سلّطْتَهُ على أهل الإسلام ، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، من خلاف ، ويصلِبُهُم على جُذوعِ النَّخلِ ، سبحان اللّه يامُعاوِيَةُ ، لكَأنَّكَ لَسْتَ مِن هذهِ الاُمَّةِ ، ولَيسوا مِنْكَ ، أوَ لستَ قاتِلَ الحضرمي الذي كتبَ إليكَ فيهِ زيادٌ أنَّهُ على دِينِ عليٍّ » .۳۲

بقي الكلام حول سرّ توليته عليه السلام زيادا مع عزله عليه السلام معاوية ، وابن عامر ونظراءهما من الظَّالمين الفاسقين ، حسما لمادّة الفساد ، وقطعا لأيدي الظَّالمين ، حَتَّى لا يتحكَّموا بالنَّاس ، ويتسلّطوا على الأُمَّةِ ، ولكنَّ حقيقة الأمر هي أ نّه لم يظهر من زياد إلى تلكم الآونة عمل سيّئ يوجب حرمانه عن الولاية من قبله ، بل لم نعثر في تاريخ حياته في زمن عمر وعثمان ، مع أنَّه كان كاتبا أو محاسبا في فتح جلولاء وتُستَر ، وكان كاتبا لأبي موسى ، ثُمَّ لعبد اللّه بن عامر ، ثُمَّ لابن عبَّاس ، بل كان كاتبا للمُغيرَةِ أيضا . ۳۳ بل جعل أبو موسى زيادا يلي أُمور البصرة ، وشكوا إلى عمر
تفويض الأمر إليه ، فأحضر عمر زيادا ، وكلّمه فردّه ، وأمر أمراء البصرة أن يشربوا برأيه . ۳۴ وذلك مع كفايته في الأُمور الدُّنيويّة ، وحفظه ظواهر الشَّرع ، وبراءتهِ من معاوية وأضرابه ، كما مرّ من خطبته ، وكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام « فإنِّي وَلَّيتُكَ ما وَلَّيتُكَ ، وأنا أراكَ لِذلِكَ أهْلاً . . . » .۳۵
وهو يدلُّ على ما قلنا ، مع شدّة مراقبة أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه ، ودقّته في أفعاله ، كما يظهر من كتبه عليه السلام إليه ، ولقد نقلها المصنف ونقلنا منها ما فاته .
وبعد ذلك كلّه ، فلو طرده أمير المؤمنين عليه السلام لكان بلا عذر ظاهر وحجَّة مبرّرة ، ولاستماله معاوية ، واستفاد منه ضدَّ عليّ عليه السلام ، وأيَّد حكومته الغاشمة ، بآرائه وحيله وسياسته وتدبيره ، كابن العاص وأضرابه .
وأمير المؤمنين عليه السلام مع علمه بعاقبة أمر زياد وأعماله القبيحة في المستقبل داراه ، كما دارى ابن ملجم وغيره ، ولم يمنعه علمه بهذا من العدل فيه ، وإجراء أحكام الشرع في حقّه .

1.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۰ .

2.راجع : الاستيعاب : ج ۲ ص ۱۰۰ الرقم ۸۲۹ .

3.راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۷ ، مروج الذَّهب : ج۳ ص۱۵ ؛ سفينة البحار : ج۱ ص۵۸۰ ، الغدير : ج۱۰ ص۳۱۹ وتاريخ اليعقوبي والإصابة .

4.تاريخ الطبري : ج۳ ص۴۸۹ .

5.تاريخ الطبري : ج۳ ص۵۹۷ .

6.تاريخ الطبري : ج۴ ص۱۸۴ وراجع : الإصابة ، أُسد الغابة، الاستيعاب.

7.راجع : الطبري : ج۴ ص۶۹ ، فتوح البلدان : ص۴۸۱ والإصابة و أُسد الغابة و الاستيعاب .

8.راجع : العِقد الفريد : ج۵ ص۱۰۶ ، مروج الذَّهب : ج۳ ص۱۶ ، تاريخ مدينة دمشق :ج۱۹ ص۱۷۵ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۰ و۱۸۱ وج۱ ص۱۷۳ ، أُسد الغابة ، الاستيعاب ؛ الغارات : ج۲ ص۹۲۶ ، بحار الأنوار : ج۳۳ ص۵۱۸ ،الغدير :ج۱۰ ص۲۱۶ ـ ۲۲۷ .

9.راجع : قاموس الرِّجال : ج ۴ ص ۵۰۶ الرقم ۳۰۰۴ ، وأُسد الغابة .

10.راجع : تاريخ الطبري : ج۴ ص۵۴۳ ، تاريخ مدينة دمشق : ج۱۹ ص۱۷۱ ، الإمامة والسياسة : ج۱ ص۷۹ .

11.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۳۶ .

12.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۵۵ .

13.راجع: تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۱۰ ؛ سفينة البحار : ج۸ ص۵۷۹ .

14.أنساب الأشراف : ج۱ ص۲۷۱ و۲۹۳ .

15.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۲۲ ، الإصابة : ج۱ ص۵۶۳ ، أُسد الغابة : ج۱ ص۲۱۵ .

16.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۳۶ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۱ .

17.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۳۸ ، مروج الذَّهب : ج۳ ص۶ .

18.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۵۵ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۲ وأُسد الغابة .

19.راجع : أُسد الغابة : ج۲ ص۳۳۷ الرقم ۱۸۰۰ ، الإصابة : ج۲ ص۵۶۹ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۸ ص۴۳ وج۱۶ ص۱۸۱ ؛ وقعة صفِّين : ص۳۶۶ ، تاريخ اليعقوبي : ج۲ ص۲۰۷ .

20.أُسد الغابة : ج۲ ص۳۳۷ الرقم ۱۸۰۰ وراجع : الإصابة ، الاستيعاب .

21.الروم: ۱۰ .

22.راجع : العِقد الفريد : ج۵ ص۱۰۶ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۷ ، مروج الذَّهب : ج۳ ص۶ ، الإصابة : ج۱ ص۵۶۳ ، الاستيعاب : ج۱ ص۵۷۰ ؛ تاريخ اليعقوبي : ج۲ ص۲۰۸ ، سفينة البحار : ج۱ ص۵۸۰ ، الغدير : ج۱۰ ص۲۱۶ و . . .

23.تاريخ الطبري : ج۵ ص۲۱۷ .

24.راجع : العِقد الفريد : ج۴ ص۷ ، تاريخ الطبري : ج۵ ص۲۱۶ ـ ۲۲۶ ، مروج الذَّهب : ج۳ ص۳۵ ؛ تاريخ اليعقوبي : ج۲ ص۲۱۸ ـ ۲۲۴ ، الغدير : ج۱۱ ص۲۹ ـ ۳۲ .

25.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۵ ص۱۳۹ .

26.بحار الأنوار : ج۴۴ ص۱۲۶ ، الغدير : ج۱۱ ص۳۷ ـ ۵۷ و۶۱ .

27.ناقة حلوب : أيهي ممّا يحلب ، والحلوب والحلوبة سواء (النهاية : ج ۱ ص ۴۲۲).

28.تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۱۹ و۲۲۲ وراجع :الكامل في التاريخ : ج۲ ص۴۷۴ ، أنساب الأشراف : ج۵ ص۲۱۹ وص ۲۰۶ و۲۲۵ .

29.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۹۳ .

30.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۹۴ ، الغدير : ج۱۱ ص۳۱ .

31.راجع : العِقد الفريد : ج۴ ص۸ وج۱ ص۸۲ ، تاريخ الطبري : ج۷ ص۱۵۸ ـ ۱۶۲ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۴ ص۵۸ ، مروج الذَّهب : ج۳ ص۳۵ ، الاستيعاب : ج۲ ص۱۰۵ الرقم ۸۲۹ ؛ الأمالي للطوسي : ص۲۳۳ ح۴۱۳ ، تاريخ اليعقوبي : ج۲ ص۲۲۴ ، الغدير : ج۱۱ ص۳۱ .

32.الإمامة والسياسة : ج ۱ ص ۲۰۳ وراجع : جمهرة رسائل العرب : ج۲ ص ۶۷ ؛ الاحتجاج : ج۲ ص۹۱ ح ۱۶۴ ، رجال الكشّي: ج ۱ ص ۲۵۵ الرقم ۹۹ ، أعيان الشيعة : ج۴ ص۵۹ ، بحار الأنوار : ج۴۴ ص۲۱۳ ح ۹ ، الغدير : ج۱۰ ص۱۶۰ .

33.العِقد الفريد : ج۴ ص۴ ـ ۱۰ .

34.تاريخ الطبري : ج۴ ص۱۸۵ .

35.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۶ ص۱۸۲ ؛ معادن الحكمة : ج۱ ص۱۹۶ الرقم۳۸ .


مكاتيب الأئمّة ج2
172

فكتب إليه زياد :
أمَّا بعدُ ؛ يا أمير المؤمنين ، فإنَّ سعدا قَدِم عليَّ ، فأساء القول والعمل ، فانتهرتهُ وزجرتُهُ ، وكان أهلاً لأكثر من ذلك .
وأمَّا ما ذَكرتَ من الإسرافِ واتِّخاذِ الألوان مِنَ الطَّعامِ والنَّعَمِ ، فإنْ كان صادقا فأثابه اللّه ُ ثوابَ الصَّالحين ، وإن كان كاذبا فوقاه اللّه أشدَّ عقوبة الكاذبين .
وأمَّا قوله : إنِّي أصِفُ العدلَ وأُخالِفُهُ إلى غيره ، فإنَّي إذَنْ من الأخسرين .
فخذ يا أمير المؤمنين ، بِمَقالٍ قُلتُهُ في مقامٍ قُمتُهُ ؛ الدَّعوى بِلا بيّنَةٍ ، كالسَّهمِ بلا نَصْلٍ ، فَإن أتاك بشاهِدَيْ عَدلٍ ، وإلاّ تبيَّنَ لَكَ كِذبهُ وظلمُه . ۱
[ ويظهر من كلام ابن أبي الحديد أنَّ الَّذي ذكره الرَّضي رحمه الله ليس مختصرا من هذا الكتاب ، بل هو كتاب مستقل كتبه لمَّا بلغه عن زياد هَنات . ]

كتابه عليه السلام إلى زِياد بن عُبَيْد

۰.قال اليعقوبيّ : وكتب إلى زياد وكان عامله على فارس : « أمَّا بَعدُ ، فإنَّ رَسُولي أخبَرنِي بِعُجْبٍ ، زَعَمَ أنَّكَ قُلتَ لَهُ فيما بيَنَكَ وبَينَهُ : أنَّ الأكرادَ هاجَت بِكَ ، فكَسَرت عَليْكَ كَثِيرا مِنَ الخَراجِ ، وقُلتَ لَهُ : لا تُعلِم بِذلِكَ أميرَ المُؤمِنينَ ، يا زِيادُ ، وأُقسِمُ باللّه ِ ، إنَّكَ لكاذِبٌ ، ولَئِن لَم تَبعَثْ بِخَراجِكَ لأَشُدَّنَّ عَليكَ شَدَّةً تَدعُكَ قَلِيلَ الوَفْرِ ، ثَقِيلَ الظَّهرِ ، إلاّ أن تَكونُ لما كَسَرْتَ مِنَ الخَراجِ مُحتَمِلاً » ۲ .

1.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۱۶ ص ۱۹۷ .

2.تاريخ اليعقوبي : ج۲ ص۲۰۴ .

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج2
    المساعدون :
    فرجي، مجتبي
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 74682
الصفحه من 528
طباعه  ارسل الي