لا بدَّ هنا من بيان أمور :
الأوَّل :
قال ابن أبي الحديد : قد عاتبت العثمانيَّة ، وقالت : إنَّ أبا بكر مات ولم يخلّف دينارا ولا درهما ، وإنَّ عليّا عليه السلام مات وخلَّف عَقارا كثيرا ـ يَعنون نَخْلاً ـ قيل لهم : قد عَلِم كل أحد أنَّ عليّا عليه السلام استخرَج عيونا بكدِّ يده بالمدينة ، ويَنْبُع وسُوَيْعة ، وأحْيَا بها مَواتا كثيرا ، ثُمَّ أخرَجها عن ملِكه ، وتَصدَّق بها على المسلمين ، ولم يمتْ وشيءٌ منها في ملِكه ، ألا ترى إلى ما تتضمّنه كُتبُ السِيَر والأخبار من منازعة زَيْد بن عليّ ، وعبد اللّه بن الحسن في صَدَقات عليّ عليه السلام ، ولم يُورِّث عليٌّ عليه السلام بنيه قليلاً من المال ، ولا كثيرا ، إلاَّ عبيدَه وإماءَه وسبعمئة دِرهَم من عَطائِهِ ، تركها ليشتريَ بها خادما لأهله قيمتُها ثمانيةٌ وعشرون دِينارا ، على حَسَب المئة أربعة دنانير ، وهكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك ، وإنَّما لم يَترُك أبو بكر قليلاً ، ولا كثيرا ، لأنَّه ما عاش ، ولو عاش لتَرَك ، ألا تَرَى أن عمر أصدَق أمَّ كلثوم أربعين ألفَ دِرهْم ، ودَفَعها إليها ! وذلك لأنَّ هؤلاء طالت أعمارُهم ، فمنهم من دَرَّتْ عليه أخلاف التجارة ، ومنهم مِنَ كان يَستعمر الأرض ويَزرَعها ، ومنهم من استفضل من رزقه مِنَ الفيء .
وفَضَلَهم أمير المؤمنين عليه السلام ، بأنَّه كان يَعمل بيده ، ويَحرُث الأرض ، ويَسْتَقي الماء ، ويغرِسُ النَّخلَ ، كل ذلك يباشِرهُ بنفسِه الشَّريفة ، ولم يَسْتبِق منه لوقته ، ولا لَعقبه قليلاً ولا كثيرا ، وإنَّما كان صَدَقَةً ؛ وقد مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله وله ضِياعٌ كثيرةٌ جليلة جدَّا بخيْبَر وفَدَك وبَني النَّضير ، وكان له وادِي نخْلة وضِياعٌ أخرى كثيرة بالطائف ، فصارت بعد موته صدقة بالخَبَر الَّذي رواه أبو بكر .
فإن كان عليّ عليه السلام مَعيبا بضِياعه ونخلِه ، فكذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهذا كفر وإلحاد ! وإن كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنَّما ترك ذلك صَدَقَةً ، فرسول اللّه صلى الله عليه و آله ـ تنزَّه عن ذلك ـ ما رَوَى عنه الخبر في ذلك إلاَّ واحد من المسلمين ، وعليّ عليه السلام كان في حياته قد أثبتَ عند جميع المسلمين بالمدينة أنَّها صَدَقة ، فالتُّهمة إليه في هذا الباب أبعَد . ۱
أقول : اشتغل أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن منع عن حقِّه ، وأبعد من عمله الاجتماعيّ وهو الحكومة على المجتمع ؛ بالزِّراعة والغرس وإحياء الأرض ، حَتَّى صارت له مزارع وبساتين كثيرة في ينبع ، ووادي القرى وخيبر وفدك ، حَتَّى قال عليه السلام : مضى عليَّ ما أربط الحجر على بطني من الجوع ، واليوم يبلغ صدقتي في كُلِّ سَنَة أربعون ألف دِينارٍ . ۲
قال النَّووي في تهذيب الأسماء ، وابن حَجَر في أُسْد الغابَة : ليس المراد من الصَّدقة الزَّكاة ، بل المراد غِلاّت موقوفاته عليه السلام .
ذكرنا تفاصيل أمواله وموقوفاته وصدقاته عليه السلام في أُصول مالكيت ۳ ، وقلنا : إنَّ عليا عليه السلام كان إماما للبشر سيّما المسلمين ، في العبادة والايمان والعلم والبيان والعمل والكسب من الحلال ، فلمَّا أُبعد عليه السلام عن الخلافة ، وحرم عباد اللّه عن أنوار الإمامة والولاية ، وأُقصِي عن الحكم والقضاء ، وابتلي الإسلام بهذه المصيبة العظمى ، اشتغل بالعبادة والزَّرع والغرس والسَّقي ، فأحيا الأراضي ، وأجرى العيون والآبار والقنوات ، فحصل له مزارع وبساتين ، وقد ذكرت ذلك في كتب الحديث والتَّاريخ والتَّراجم . ۴
عن عَلِيُّ بن إِبْرَاهِيمَ ، عن أبِيه ، عن ابن أبِي عُمَيْرٍ ، عن سَيْفِ بن عَمِيرَةَ وسَلَمَةَ صَاحِبِ السَّابِرِيِّ ، عن أبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّام ، عن أبِي عَبدِ اللّه عليه السلام : « أنَّ أمِيرَ المُؤمِنِينَ عليه السلام أعْتَقَ ألْفَ مَمْلُوكٍ من كَدِّ يَدِهِ » .
وعن أحْمَدَ بن أبِي عَبدِ اللّه ، عن شَرِيفِ بن سَابِقٍ ، عن الفَضْلِ بن أبِي قُرَّةَ ، عن أبِي عَبدِ اللّه عليه السلام قال : « كَانَ أمِيرُ المُؤمِنِينَ صَلَوَاتُ اللّه ِ عَلَيْهِ يَضْرِبُ بِالْمَرِّ ويَسْتَخْرِجُ الأرَضِينَ ، وكَانَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يَمَصُّ النَّوَى بِفِيهِ ، ويَغْرِسُهُ فَيَطْلُعُ من سَاعَتِه » .
مُحَمَّدُ بن يَحْيَى ، عن أحْمَدَ بن مُحَمَّدٍ ، عن ابْنِ فَضَّالٍ ، عن ابن بُكَيْرٍ ، عن زُرَارَة ، وعن أبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قال : « لَقِيَ رَجُلٌ أمِيرَ المُؤمِنِينَ عليه السلام وتَحْتَهُ وَسْقٌ من نَوىً ، فَقَال لَه : مَا هَذَا يَا أبَا الحَسَنِ تَحْتَكَ ؟ فَقَال : مئَةُ ألْفِ عَذْقٍ إِنْ شَاءَ اللّه ُ ، قال : فَغَرَسَهُ فلمْ يُغَادَرْ مِنْهُ نَوَاةٌ وَاحِدَةٌ » .
وعن سَهْلِ بن زِيَادٍ ، عن ابن مَحْبُوبٍ ، عن عبد اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عن أبِي عبد اللّه عليه السلام ، قَال : « إِنَّ أمِيرَ المُؤمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَخْرُجُ ومَعَهُ أحْمَالُ النَّوَى ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا أبَا الحَسَنِ، مَا هَذَا مَعَك؟ فَيَقُول: نَخْلٌ إِنْ شَاءَ اللّه ُ، فَيَغْرِسُهُ فَلَمْ يُغَادَرْ مِنْهُ وَاحِدَةٌ».۵
قال في المناقب بعد نقل الحديث الثَّالث : فهو من أوقافه ، ووقف مالا بخيبر وبوادي القرى ، ووقف مال أبي نيرو ، والبغيبغة ، وارباجا ، وارينه ، ورعدا ، ورزينا ، ورَباحا ، على المؤمنين ، وأمر بذلك أكثر ولد فاطمة من ذوي الأمانة والصَّلاح ، وأخرج مئة عين ينبع ، جعلها للحجيج ، وهو باق إلى يومنا هذا ، وحفر آبارا في طريق مكّة والكوفة وبنى مسجد الفتح في المدينة ، وعند مقابل قبر حمزة ، وفي الميقات ، وفي الكوفة ، وجامع البصرة ، وفي عبادان وغير ذلك . ۶
وكان عليه السلام في خلافته يصرف في نفسه وعائلته من غِلاّت أملاكِهِ بالمدينة ، ولا يصرف من بيت المال ، وعن أبي جعفر عليه السلام قال : قبض عليّ عليه السلام وعليه دَين ثمانمئة ألفِ دِرهَمٍ ، فباع الحسنُ عليه السلام ضيعة له بخمسمئة ألف درهم ، فقضاها عنه ، وباع ضيعة أخرى له بثلاثمئة ألف درهم فقضاها عنه ، وذلك أنَّه لم يكن يذر من الخمس شيئا ، وكان تنوبه نوائب . ۷
وعَلِيٌّ عن أبِيه ، عن ابن أبِي عُمَيْرٍ ، عن عبد الرَّحْمن بن الحَجَّاج ، عن مُحَمَّدِ بن مُسْلِمٍ ، عن أبِي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « لَمَّا وَلِي عَلِيٌّ عليه السلام صَعِد المِنْبَرَ ، فَحَمِدَ اللّه َ ، وأثْنَى عَلَيْه ، ثُمَّ قال :إِنِّي واللّه لا أرْزَؤكُمْ من فَيْئِكُمْ دِرْهَما ، مَا قَام لِي عِذْقٌ بِيَثْرِبَ . . . » .۸
ويقول : « فَوَ اللّه ِ ما كَنَزتُ من دنياكُم تِبْرا ، ولا ادَّخرْت من غنائمها وَفْرا ، ولا أعْدَدْت لِبالي ثَوْبَيَّ طِمْرا . . . » .۹
العباس قال : حدَّثنا ابن المبارك ، قال : حدَّثنا بكر بن عيسى ، قال : كان عليّ عليه السلام يقول : « يا أهَل الكوفة ، إذا أَنَا خرجتُ من عندكم بغير رَحلي وراحِلَتي وغلامي فأَنَا خائنٌ ، وكانت نفقته تأتيه من غلّته بالمدينة من يَنْبُع ، وكان يطعم النَّاس الخُبْز واللَّحم ، ويأكل من الثَّريدِ بالزَّيتِ ، ويُكلِّلُها بالتَّمرِ مِنَ العَجْوةِ . . . » .۱۰
ويقول : « دخلتُ بلادَكُم بأشمالي هذهِ ورحلتي وراحِلَتي ومَا هي ، فإن أَنَا خَرجتُ مِن بِلادِكُم بِغَيرِ ما دخَلتُ ، فإنَّني مِنَ الخائِنينَ » .
وفي رواية : « يا أهلَ البَصرةِ ، ما تنْقِمونَ مِنِّي ؟ إنَّ هذا لَمِن غَزْلِ أهلِي » ، وأشار إلى قميصه .۱۱
وروى أبو مِخْنَف لوط بن يَحْيَى ، عن رجاله ، قال : « لمَّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام التُّوجُّهَ إلى الكوفة قام في أهل البصرة ، فقال : ما تنْقِمون عليّ يا أهل البصرة ؟ ـ وأشار إلى قميصه وردائِهِ ، فقال : ـ واللّه إنَّهما لَمِنْ غَزلِ أهلِي ما تنْقِمونَ منِّي يا أهلَ البَصرَةِ ؟ ـ وأشار إلى صرّة في يَدِهِ فيها نَفَقَتُهُ فَقالَ : ـ واللّه ما هي إلاَّ من غلّتي بالمدينة ، فإن أَنَا خرجتُ من عندكم بأكثر ممَّا ترون فأَنَا عند اللّه من الخائنين .۱۲ هذا عمله وكسبه منذ قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأُقصي عن مقامه الَّذي جعله اللّه له ، وصبر وفي العين قَذى وفي الحَلقِ شَجَى وهذا أيضا صدقاته وعطاياه ، ثُمَّ جعل
أملاكه وأمواله كلّها وقفا في سبيل اللّه لبني هاشم ، وبني عبد المطّلب ، وللحجيج والفقراء ، والمَساكِينَ .
مُحَمَّدُ بن يَحْيَى ، عن أحْمَدَ بن مُحَمَّد وعليُّ بن مُحَمَّدٍ ، عن سَهْل بن زِيَاد ، جَمِيعا عن ابن مَحْبُوب ، عن أبي حَمْزَة عن أبي جَعْفَر عليه السلام ، قال : « لمَّا قُبِض أميرُ المُؤمِنِين عليه السلام ، قَام الحَسَن بن عليّ عليه السلام في مسجِد الكُوفَة ، فَحَمِد اللّه ، وأثْنَى عليه ، وصَلَّى على النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قال : أيُّهَا النَّاس ، إِنَّهُ قد قُبِض في هَذه اللَّيْلَة رَجُلٌ ما سَبَقَهُ الأوَّلُونَ ولا يُدْرِكُهُ الآخِرُون . . . واللّه ِ ، مَا تَرَكَ بَيْضَاءَ ، ولا حَمْرَاء ، إِلاّ سَبْعَمئة درْهمٍ فَضَلَتْ عن عَطَائِه ، أرادَ أنْ يَشْتَرِي بها خَادِما لِأهْلِه . . .۱۳
1.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۱۵ ص۱۴۶ .
2.راجع : مسند ابن حنبل : ج۱ ص۳۳۴ ح۱۳۶۷ و۱۳۶۸ ، أُسد الغابة : ج۴ ص۹۷ ، تاريخ مدينة دمشق : ج۴۲ ص۳۷۵ ؛ كشف المحجّة لثمرة المهجة : ص۱۸۲ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج۲ ص۷۲ ، بحار الأنوار : ج۴۱ ص۲۶ و۴۳ .
3.أصول مالكيت : ج۲ ، فارسي .
4.راجع : الإرشاد : ج۲ ص۱۴۱ و۱۴۲ ، الغارات : ج۲ ص۷۰۱ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج۲ ص۱۲۲ و۱۲۳ و۱۵۳ و۱۵۷ و۱۵۸ ، بحار الأنوار : ج۴۱ ص۳۹ و۴۰ و۱۲۵ ؛ السنن الكبرى :ج۶ ص۱۳۹ و۱۶۵ و۲۶۶ ، المصنف لعبد الرزاق : ج۹ ص۱۶۹ ، أنساب الأشراف : ج۲ ص۳۳۰ و۳۶۰ و۳۶۱ و۴۲۰ وج۳ ص۲۸ و۳۰ و۳۱ ، معجم البلدان : ج۴ ص۲۶۹ وج۵ ص۴۴۹ و۴۵۰ ، تاريخ اصبهان : ج۲ ص۱۴۴ ، تهذيب تاريخ مدينة دمشق : ج۴ ص۱۶۷ وج۵ ص۴۶۳ .
5.الكافي : ج ۵ ص۷۴ ح۲ و۴ و۶ و۹ .
6.المناقب لابن شهرآشوب : ج۲ ص۱۲۳ .
7.راجع: كشف المحجّة لثمرة المهجة : ص۱۸۳ ، بحار الأنوار : ج۴۰ ص۲۳۹ ـ ۳۳۸ ح ۲۳ .
8.الكافي : ج۸ ص۱۸۲ ح۲۰۴ ، الاختصاص : ص۱۵۱ ، بحار الأنوار : ج۴۱ ص۱۳۱ ح۴۳ .
9.نهج البلاغة : الكتاب۴۵ ، بحار الأنوار : ج۴۰ ص۳۴۰ ح۲۷ ، معادن الحكمة : ج۱ ص۲۲۰ .
10.الغارات : ج۱ ص۶۸ ، بحار الأنوار : ج۴۱ ص۱۳۷ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد :ج۲ ص۲۰۰ .
11.المناقب لابن شهرآشوب : ج۲ ص۹۸ ، بحار الأنوار : ج۴۰ ص۳۲۵ ح۷ .
12.الجمل : ص۴۲۲ .
13.الكافي : ج۱ ص۴۵۷ ح۸ وراجع : الإرشاد : ج۲ ص۸ ، كشف الغمَّة : ج۱ ص۱۷۹ ، بحار الأنوار : ج۲۵ ص۲۱۴ ح۵ ؛ مسند ابن حنبل : ج۱ ص۴۲۶۶ ح۱۷۲۰ ، أنساب الأشراف : ج۳ ص۲۵۹ ، العقد الفريد : ج۲ ص۳۹۹ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۷ ص۲۱۹ .