غارة النُّعْمَان بن بشير الأنْصاريّ على عين التَّمر ومالك بن كَعْب الأرْحَبيّ :
عن مُحَمَّد بن يوسف بن ثابت : أنَّ النُّعْمَان بن بشير قدم هو وأبو هريرة على عليّ عليه السلام من عند معاوية ، بعد أبي مسلم الخولاني ، يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقتلهم بعثمان ، لعلَّ الحرب أن تطفأ ويصطلح النَّاس ، وإنَّما أراد معاوية أن يرجع مثل النُّعْمَان وأبي هريرة من عند عليّ عليه السلام إلى النَّاس ، وهم لمعاوية عاذرون ولعليّ لائمون ، وقد علم معاوية أنَّ عليَّا عليه السلام لا يدفع قتلة عثمان إليه ، فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشَّام بذلك ، وأن يُظهر عذره ، فقال لهما : ائتيا عليَّا ، فناشداه اللّه وسلاه باللّه لمَّا دفع إلينا قتلة عثمان ، فإنَّه قد آواهم ومنعهم ، ثُمَّ لا حرب بيننا وبينه ، فإنْ أبى فكونوا شهداء اللّه عليه ، وأقبلا إلى النَّاس فأعلماهم ذلك ، فأتياه ، فدخلا عليه فقال له أبو هريرة : يا أبا حسن ، إنَّ اللّه قد جعل لك في الإسلام فضلاً وشرفا ، أنت ابن عمّ مُحَمَّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد بعثنا إليك ابن عمّك معاوية يسألك أمرا تهدأ به هذه الحرب ، ويصلح اللّه به ذات البين ، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمّه ، فيقتلهم به ، ثُمَّ يجمع اللّه به أمرك وأمره ، ويصلح اللّه بينكم ، وتسلم هذه الأمّة من الفتنة والفرقة . ثُمَّ تكلَّم النُّعْمَان بنحو من هذا .
فقال عليه السلام لهما : « دعا الكلامَ فِي هذا ، حدِّثني عَنْكَ يا نُعْمانُ ، أنْتَ أهدى قَوْمِكَ سَبِيلاً ؟ » يعني الأنصار ؟ قال : لا . فقال : « كلُّ قومِكَ قد اتَّبعني إلاَّ شُذَّاذا مِنهُم ثَلاثَةٌ أو أربَعَةٌ ، أفتكونُ أنْتَ مِنَ الشُّذَّاذ ؟ » فقال النُّعْمان : أصلحك اللّه ، إنَّما جئت لأكون معك ، وألزمك ، وقد كان معاوية سألني أن أؤدِّي هذا الكلام ، وقد كنت رجوت أن يكون لي موقفٌ أجتمع فيه معك ، وطمعت أن يجري اللّه تعالى بينكما صلحا ، فإذا كان غير ذلك رأيك ، فأنا ملازمك وكائن معك .
وأمَّا أبو هريرة فلحق بالشَّام ، فأتى معاوية وخبره الخبر ، فأمره أن يخبر الناس ففعل ، وأمَّا النُّعْمان ، فأقام بعده أشهرا ، ثُمَّ خرج فارَّا من عليٍّ عليه السلام ، حَتَّى إذا مرَّ بعين التَّمر ، أخذه مالك بن كَعْب الأرْحَبيّ ، وكان عامل عليّ عليه السلام عليها ، فأراد حبسه ، وقال له : ما مرَّ بك هاهنا ، قال : إنَّما أنا رسولٌ بلَّغت رسالة صاحبي ، ثُمَّ انصرفت ، فحبسه ، ثُمَّ قال : كما أنت حَتَّى أكتب إلى عليّ عليه السلام فيك ، فناشده ، وعظم عليه أن يكتب إلى عليّ عليه السلام فيه ، وقد كان قال لعليّ عليه السلام : إنَّما جئت لأُقيم ، فأرسل النُّعْمَان إلى قَرَظَةَ بن كَعْب الأنْصاريّ ، وهو بجانب عين التَّمر يجبي خراجها لعليّ عليه السلام ، فجاء مسرعا حَتَّى وصل إلى مالك بن كَعْب ، فقال له : خلِّ سبيل هذا الرَّجل ـ يرحمك اللّه ـ ، فقال له : يا قرظة ، اتَّق اللّه ، ولا تتكلَّم في هذا ، فإنَّ هذا لو كان من عبَّاد الأنصار ونسَّاكهم ما هرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين ، فلم يزل يقسم عليه حتى خلَّى سبيله ، فقال له : يا هذا ، لك الأمان اليوم واللَّيلة وغدا ، ثُمَّ قال : واللّه لئن أدركتك بعدها لأضرِبَنَّ عنقك . . .
[ فلمَّا أغار النُّعْمَان على عين التَّمر بعد غارة الضَّحَّاك بن قيس . . .استعان مالك بن كَعْب بقَرَظَة بن كَعْب فقال : إنَّما أنا صاحب خراج ، وليس عندي من أُعينه به ، ثُمَّ استعان بمِخْنَف بن سُلَيْم ، وكان على الصَّدقة لعليّ عليه السلام ، وكان على أرض الفرات ، فأعانه بخمسين رجلاً ، حَتَّى نصر اللّه مالكا ، ورجع النُّعْمَان عنه مخذولاً . ۱
فأعان لانقاذ عدوِّ عليّ عليه السلام ، وخذل عامله مالك بن كَعب ، ويحتمل أن لا يكون ذلك خيانة ؛ لعذر له في الواقع ، ولعلَّ عدم مؤاخذة أمير المؤمنين عليه السلام له ناشئة من كونه معذورا ، بل يتّضح ذلك من بقائه إلى جانب الإمام عليه السلام حَتَّى صلَّى عليه حين مات . فقد مات قَرَظَة بالكوفة في خلافة عليّ عليه السلام ، وصلَّى عليه عليّ عليه السلام كما نصَّ على ذلك المؤرّخون . ۲
وكانت معه راية الأنصار في صفِّين ، ولمَّا رجع عليّ عليه السلام من حرب البصرة خرج قَرَظَة من النَّاس ، فدنوا منه يهنونه بالفتح ، وإنَّه ليمسح العرق عن جَبهَتِهِ ، فقال له قَرَظَة بن كَعب : الحمد للّه ِ ، يا أمير المؤمنين ، أعزَّ وليّك ، وأذلَّ عدوَّك ، ونصرك على القوم الظَّالمين . قال : وولاّه فارس ] . ۳
1.راجع : الغارات : ج۲ ص۴۴۵ ـ ۴۵۶ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۲ ص۳۰۱ ـ ۳۰۵ .
2.راجع : تهذيب التهذيب : ج۴ ص۵۲۷ الرقم ۶۵۱۱ ، الكامل في التاريخ : ج۲ ص۴۴۴ ، أُسد الغابة :ج۴ ص۳۸۰ ، الإستيعاب : ج۳ ص۳۶۵ ، فتوح البلدان : ص۴۴۶ .
3.راجع : الغارات : ج۲ ص۷۷۶ و۷۷۷ ( تعليقة :۴۱ ) ، قاموس الرجال :ص۸ ص۵۲۰ ، سفينة البحار : ج۷ ص۲۷۸ ، تنقيح المقال : ج۲ ص۲۸ ، معجم رجال الحديث : ج۱۴ ص۸۲ .