255
جواهر الحكمة للشّباب

جواهر الحكمة للشّباب
254

3 / 1

أبوذَرٍّ الغِفارِيُّ

جُنْدَبُ بنُ جُنادَة ، وهُوَ مَشهورٌ بِكُنيَتِهِ . صَوتُ الحَقِّ المَدويُّ ، وصَيحَةُ الفَضيلَةِ وَالعَدالَةِ المُتَعالِيَةِ ، أحَدُ أجِلاّءِ الصَّحابَةِ ، وَالسّابِقينَ إلَى الإِيمانِ ، وَالثّابِتينَ عَلَى الصِّراطِ المُستَقيمِ . كانَ مُوَحِّداً قَبلَ الإِسلام ، وتَرَفَّعَ عَن عِبادَةِ الأَصنامِ . جاءَ إلى مَكَّةَ قادِماً مِنَ البادِيَةِ ، وَاعتَنَقَ دينَ الحَقِّ بِكُلِّ وُجودِهِ ، وسَمِعَ القُرآنَ .
عُدَّ رابِعَ مَن أسلَمَ أو خامِسَهُم . وَاشتَهَرَ بإِعلانِهِ إسلامَهُ ، وَاعتِقادِهِ بِالدّينِ الجَديدِ ، وتَقصّيهِ الحَقَّ مُنذُ يَومِهِ الأَوَّلِ .
وكانَ فَريداً فَذّاً في صِدقِهِ وصَراحَةِ لَهجَتِهِ ، حَتّى قالَ رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله كَلِمَتَهُ الخالِدَةَ فيهِ تَكريماً لِهذِهِ الصِّفَةِ المَحمودَةِ العالِيَةِ : «ما أظَلَّتِ الخَضراءُ ، وما أقَلَّتِ الغَبراءُ أصدَقَ لَهجَةٍ مِن أبي ذَرٍّ» .
وكانَ مِنَ الثُّلَّةِ المَعدودَةِ الَّتي رَعَت حُرمَةَ الحَقِّ في خِضَمِّ التَّغَيُّراتِ الَّتي طَرَأَت بَعدَ وَفاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله . وتَفانى فِي الدِّفاعِ عَن مَوقِعِ الوِلايَةِ العَلَوِيَّةِ الرَّفيعَةِ ، وجَعَلَ نَفسَهُ مِجَنّاً لِلذَّبِّ عَنهُ ، وكانَ أحَدَ الثَّلاثَةِ الَّذينَ لَم يُفارِقوا عَلِيّا عليه السلام قَطُّ .
ولَنا أن نَعُدَّ مِن فَضائِلِهِ ومَناقِبِهِ صَلاتَهُ عَلَى الجُثمانِ الطّاهِرِ لِسَيِّدَةِ نِساءِ العالَمينَ فاطِمَة عليهاالسلام ، فَقَد كانَ في عِدادِ مَن صَلّى عَلَيها في تِلكَ اللَّيلَةِ المَشوبَةِ بِالأَ لَمِ وَالغَمِّ وَالمِحنَةِ .
وصَرَخاتُهُ بِوَجهِ الظُّلمِ مَلَأَتِ الآفاقَ ، وَاشتَهَرَت فِي التّاريخِ ؛ فَهُوَ لَم يَصبِر عَلى إسرافِ الخَليفَةِ الثّالِثِ وتَبذيرِهِ وعَطاياهُ الشّاذَّةِ ، وَانتَفَضَ ثائِراً صارِخاً ضِدَّها ، ولَم يَتَحَمَّلِ التَّحريفَ الَّذِي افتَعَلوهُ لِدَعمِ تِلكَ المَكرُماتِ
المُصطَنَعَةِ ، وقَدَحَ فِي الخَليفَةِ وتَوجيهِ كَعبِ الأَحبار لِأَعمالِهِ ومُمارَساتِهِ . فَقامَ الخَليفَةُ بِنَفيِ صَوتِ العَدالَةِ هذا إلَى الشّام الَّتي كانَت حَديثَةَ عَهدٍ بِالإِسلام ، غَيرَ مُلِمَّةٍ بِثَقافَتِهِ .
ولَم يُطِقهُ مُعاوِيَة أيضاً ؛ إذ كانَ يَعيشُ فِي الشّام كَالمُلوكِ ، ويَفعَلُ ما يَفعَلُهُ القَياصِرَة ، ضارِباً بِأَحكامِ الإِسلام عَرضَ الجِدارِ ، فَأَقَضَّت صَيحاتُ أبي ذَرٍّ مَضجَعَهُ . فَكَتَبَ إلى عُثمان يُخبِرُهُ بِاضطِرابِ الشّام عَلَيهِ إذا بَقِيَ فيها أبو ذَرٍّ ، فَأَمَرَ بِرَدِّهِ إلَى المَدينَة ، وأرجَعوهُ إلَيها عَلى أسوَاَ حالٍ .
وقَدِمَ أبو ذَرٍّ المَدينَة ، لكِن لا سِياسَةُ عُثمان تَغَيَّرَت ، ولا مَوقِفُ أبي ذَرٍّ مِنهُ ، فَالاِحتِجاجُ كانَ قائِماً ، وَالصَّيحاتُ مُستَمِرَّةً ، وقَولُ الحَقِّ مُتَواصِلاً ، وكَشفُ المَساوِئِ لَم يَتَوَقَّف . ولَمّا لَم يُجدِ التَّرغيبُ وَالتَّرهيبُ مَعَهُ ، غَيَّرَتِ الحُكومَةُ اُسلوبَها مِنهُ ، وما هُوَ إلاّ الإِبعادُ ، لكِنَّهُ هذِهِ المَرَّةَ إلَى الرَّبَذَة ، وهِيَ صَحراءُ قاحِلَةٌ حارِقَةٌ ، وأصدَرَ عُثمان تَعاليمَهُ بِمَنعِ مُشايَعَتِهِ . ولَم يَتَحَمَّل أميرُ المُؤمِنين عليه السلام هذِهِ التَّعاليمَ الجائِرَةَ ، فَخَرَجَ مَعَ أبنائِهِ وعَدَدٍ مِنَ الصَّحابَة لِتَوديعِهِ .
ولَهُ كَلامٌ عَظيمٌ خاطَبَهُ بِهِ وبَيَّنَ فيهِ ظُلامَتَهُ . وتَكَلَّمَ مَن كانَ مَعَهُ أيضاً لِيَعلَمَ النّاسُ أنَّ الَّذي أبعَدَ هذَا الصَّحابِيَّ الجَليلَ إلَى الرَّبَذَة هُوَ قَولُ الحَقِّ ومُقارَعَةُ الظُّلمِ لا غَيرُها .
وكانَ إبعادُ أبي ذَرٍّ أحَدَ مُمَهِّداتِ الثَّورَةِ عَلى عُثمان . وذَهَبَ هذَا الرَّجُلُ العَظيمُ إلَى الرَّبَذَة رَضِيَّ الضَّميرِ ؛ لِأَنَّهُ لَم يَتَنَصَّل عَن مَسؤولِيَّتِهِ في قَولِ الحَقِّ ، لكِنَّ قَلبَهُ كانَ مَليئاً بِالأَ لَمِ ؛ إذ تُرِكَ وَحدَهُ ، وفُصِلَ عَن مَرقَدِ حَبيبِهِ رَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله .
يَقولُ عَبدُ اللّه ِ بنُ حَوّاشٍ الكَعبِيُّ : رَأَيتُ أبا ذَرٍّ فِي الرَّبَذَة وهُوَ جالِسٌ وَحدَهُ في ظِلِّ سَقيفَةٍ ، فَقُلتُ : يا أبا ذَرٍّ ، وَحدَكَ !
فَقالَ : كانَ الأَمرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ شِعاري ، وقَولُ الحَقِّ سيرَتي ، وهذا ما تَرَكَ لي رَفيقاً .
تُوُفِّيَ أبو ذَرٍّ سَنَةَ 32 ه . وتَحَقَّقَ ما كانَ يَراهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله في مِرآةِ الزَّمانِ ، وما كانَ يَقولُهُ فيهِ ، وكانَ قَد قالَ صلى الله عليه و آله : «يَرحَمُ اللّه ُ أبا ذرٍّ ، يَعيشُ وَحدَهُ ، ويَموتُ وَحدَهُ ، ويُحشَرُ يَومَ القِيامَةِ وَحدَهُ» .
ووَصَلَ جَماعَةٌ مِنَ المُؤمِنينَ فيهِم مالِكٌ الأَشتَر بَعدَ وَفاةِ ذلِكَ الصَّحابِيِّ الكَبيرِ القائِلِ الحَقِّ في زَمانِهِ ، ووَسَّدوا جَسَدَهُ النَّحيفَ الثَّرى بِاحتِرامٍ وتَبجيلٍ .

  • نام منبع :
    جواهر الحكمة للشّباب
    المساعدون :
    غلامعلي، احمد
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 192252
الصفحه من 366
طباعه  ارسل الي