297
جواهر الحكمة للشّباب

3 / 32

مالك الأشتر

هُوَ مالِكُ بنُ الحارِث بنِ عَبدِ يَغوثَ النَّخَعِيُ الكوفِيُّ ، المَعروفُ بِالأَشتَر ؛ الوَجهُ المُشرِقُ ، وَالبَطَلُ الّذي لا يُقهَرُ ، واللَّيثُ البَاسِلُ فِي الحُروبِ ، وأصلَبُ صَحابَةِ الإِمامِ أميرِ المُؤمِنين عليه السلام وأثبَتُهُم .
وكانَ الاِءمامِ عليه السلام يَثِقُ بِهِ ويَعتَمِدُ عَلَيهِ ، وطالَما كانَ يُثني عَلى وَعيِهِ ، وخُبرَتِهِ ، وبُطولَتِهِ ، وبَصيرَتِهِ ، وعَظَمَتِهِ ، ويَفتَخِرُ بِذلِكَ .
ولَيسَ بِأَيدينا مَعلوماتٌ تذكرُ حَولَ بِداياتِ وَعيِهِ . وكانَ أوَّلُ حُضورِهِ الجادِّ في فَتحِ دِمَشق وحَربِ اليَرموك ، وفيها اُصيبَت عَينُهُ فَاشتَهَرَ بِالأَشتَر .
وكانَ مالِكٌ يَعيشُ فِي الكوفَة . وكانَ طَويلَ القَامَةِ ، عَريضَ الصَّدرِ ، طَلقَ اللِّسانِ ، عَديمَ المَثيلِ في الفُروسِيَّةِ . وكانَ لِمزاياهُ الأَخلاقِيَّةِ ومُروءَتِهِ ومَنعَتِهِ وهَيبَتِهِ واُبُّهتِهِ وحَيائِهِ ، تَأثيرٌ عَجيبٌ في نُفوسِ الكوفِيّين ؛ مِن هُنا كانوا يَسمَعونَ كَلامَهُ ، ويَحتَرِمونَ آراءَهُ .
ونُفِيَ مَعَ عَدَدٍ مِن أصحابِهِ إلى حِمصَ في أيّامِ عُثمان بِسَبَبِ اصطِدامِهِ بِسَعيدِ بنِ العاص والي عُثمان . ولَمَّا اشتَدَّت نَبرَةُ المُعارَضَةِ لِعُثمان عادَ إلَى الكوفَة ، ومَنَعَ والِيَهُ ـ الَّذي كانَ قَد ذَهَبَ إلَى المَدينَه آنَذاكَ ـ مِن دُخولِها .
وَاشتَرَكَ في ثَورَةِ المُسلِمينَ عَلى عُثمان ، وتَوَلّى قِيادَةَ الكوفِيّين الَّذينَ كانوا قَد تَوَجَّهوا إلَى المَدينَة ، وكانَ لَهُ دَورٌ حاسِمٌ فِي القَضاءِ عَلى حُكومَةِ عُثمان .
وَليَ مالِكٌ الجَزيرَةَ ـ وهِيَ تَشمُلُ مَناطِقَ بَينَ دِجلَة والفُرات ـ بَعدَ
حَربِ الجَمَل . وكانَت هذِهِ المَنطَقَةُ قَريبَةً مِن الشّام الَّتي كانَ يَحكُمُها مُعاوِيَة . وَاستَدعاهُ الإِمامُ عليه السلامقَبلَ حَربِ صِفّين .
وكانَ عَلى مُقَدَّمَةِ الجَيشِ فِي البِدايَةِ ، وقَد هَزَمَ مُقَدَّمَةَ جَيشِ مُعاوِيَة .
ولَمَّا استوَلى جَيشُ مُعاوِيَة عَلَى الماءِ وأغلَقَ مَنافِذَهُ بِوَجهِ جَيشِ الإِمامِ عليه السلام ، كانَ لِمالِكٍ دَورٌ فاعِلٌ في فَتحِ تِلكَ المَنافِذِ وَالسَّيطَرَةِ عَلَى الماءِ . وكانَ فِي الحَربِ مُقاتِلاً باسِلاً مِقداما ، رابِطَ الجَأشِ مُجِدّا مُستَبسِلاً ، وقَد قاتَلَ بِقَلبٍ فَتِيٍّ وشَجاعَةٍ مُنقَطِعَةِ النَّظيرِ . وتَوَلّى قِيادَةَ الجَيشِ مَعَ الأَشعَث ، وكانَ عَلى خَيّالَةِ الكوفَة طولَ الحَربِ ، وأحيانا كانَ يَقودُ أقساما اُخرى مِنَ الجَيشِ .
وفي مَعارِكِ ذِي الحِجَّة الاُولى كانَتِ المَسؤولِيَّةُ الأَصلِيَّةُ وَالدَّوُر الاَساسي لِلقِتالِ عَلى عاتِقِهِ . وفِي المَرحَلَةِ الثّانِيَةِ ، في شَهرِ صَفَر ، كانَ يَقودُ القِتالَ أيضا يَومَينِ في كُلِّ ثَمانِيَةِ أيّامٍ .
وكانَ لَهُ مَظهَرٌ عَجيبٌ فِي المُنازَلاتِ الفَردِيَّةِ لِلقِتالِ ، وفي حَلِّ عُقَدِ الحَربِ ، وعِلاجِ مَشاكِلِ الجَيشِ ، وَالنُّهوضِ بِعِب ءِ الحَربِ ، وَالسَّيرِ بِها قُدما بِأَمرِ الإِمامِ عليه السلام . بَيدَ أنَّ مَظهَرَهُ الباهِرَ الخالِدَ قَد تَجَلّى فِي الأَيّامِ الأَخيرَةِ مِنها ، بِخاصَّةِ «يَومِ الخَميس» و «لَيلَةِ الهَرير» .
وكانَ يَومُ الخَميس ولَيلَةُ الجُمُعَة «لَيلَةُ الهَرير» مَسرَحا لِعَرضٍ عَجيبٍ تَجَلَّت فيهِ شَجاعَتُهُ ، وشَهامَتُهُ ، وَاستِبسالُهُ ، وقِتالُهُ بِلا هَوادَةٍ ، إذ خَلخَلَ نَظمَ الجَيشِ الشّامِيِّ ، وتَقَدَّمَ صَباحَ الجُمُعَة حَتّى أشرَفَ عَلى خَيمَةِ القِيادَةِ .
وصارَ هَلاكُ العَدُوِّ أمرا مَحتوما ، وبَينا كانَ الظُّلمُ يَلفَظُ أنفاسَهُ الأَخيرَةَ ، وَالنَّصرُ يَلتَمِعُ في عُيونِ مالِك ، تَآمَرَ عَمرُو بنُ العاص ونَشَرَ فَخَّ
مَكيدَتِهِ ، فَأَسرَعَت جُموعٌ مِن جَيشِ الإِمامِ ـ وهُمُ الَّذينَ سَيُشَكِّلونَ تَيّارَ الخَوارِج ـ ومَعَهُمُ الأَشعَث إلى مُؤازَرَتِهِ ، فَازدادَ الطّينُ بِلَّةً بِحَماقَتِهِم . وهكَذا جَعَلُوا الإِمامَ عليه السلام في وَضعٍ حَرِجٍ لِيَقبَلَ الصُّلحَ ، ويُرجِعَ مالِكا عَن مَوقِعِهِ المُتَقَدِّمِ في مَيَدانِ الحَربِ . وكانَ طَبيِعيّا في تلكَ اللَّحظَةِ المَصيِريَّةِ الحاسِمَةِ العَجيبَةِ أن يَرفُضَ مالِك ، ويَرفُضَ مَعَهُ الإِمامُ عليه السلام أيضا ، لكِن لَمّا بَلَغَهُ أنَّ حَياةَ الإِمامِ في خَطَرٍ ، عادَ بِروحٍ مَلَأَها الحُزنُ وَالأَلَمُ ، فَأَغمَدَ سَيفَهُ ، ونَجا مَعاوِيَةُ الَّذي أوشَكَ أن يَطلُبَ الأَمانَ مِن مَوتٍ مُحَقَّقٍ ، وخَرَجَ مِن مَأزَقٍ ضاقَ بِهِ !
وشاجَرَ مالِك الخَوارِج وَالأَشعَث ، وكَلَّمَهُم في حَقيقَةِ ما حَصَلَ ، وأنبَأَهُم بِما يَملِكُ مِن بَصيرَةٍ وبُعدِ نَظَرٍ ، أنَّ جَذرَ تَقَدُّسِهِم يَكمُنُ في تَمَلُّصِهِم مِنَ المَسؤولِيَّةِ ، وشَغَفِهِم بِالدُّنيا .
وحينَ اقتَرَحَ الإمامُ عليه السلام عَبدَ اللّه ِ بنَ عَبّاس لِلتَّحكيمِ ورَفَضَهُ الخَوارِج وَالأَشعَث ، اقتَرَحَ مالِك ا ، فَرَفَضوهُ أيضا مُصِرّينَ عَلى يَمِانيَّةِ الحَكَمِ ، في حينٍ كانَ مالِك يَمِانيَّ المَحتِدِ ، وهذا مِن عَجائِبِ الاُمورِ !
وعادَ مالِك بَعدَ صِفّين إلى مُهِمَّتِهِ . ولَمَّا اضطَرَبَت مِصر عَلى مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكر وصَعُبَ عَلَيهِ أمرُها وتَمَرَّدَ أهلُهَا ، انتَدَبَ الإِمامُ عليه السلام مالِك ا ووَلاّهُ عَلَيها . وكانَ قَد خَبَرَ كِفاءَتَهُ ، ورِفعَتَهُ ، واستِماتَتَهُ ، ودَأبَهُ ، ووَعيَهُ ، وخُبرَتَهُ فِي العَمَلِ ، فَكَتَبَ إلى أهلِ مِصر كِتابا يُعَرِّفُهُم بِهِ ، قالَ فيهِ : « ... بَعَثتُ إلَيكُم عَبدا مِن عِبادِ اللّه ِ ، لا يَنامُ أيّامَ الخَوفِ ، ولا يَنكُلُ عَنِ الأَعداءِ ساعاتِ الرَّوعِ ، أشَدَّ عَلَى الفُجّارِ مِن حَريقِ النّارِ ، وهُوَ مالِكُ بنُ الحارِث أخو مَذحِج ، فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوا أمرَهُ فيما طابَقَ الحَقَّ ؛ فَإِنَّهُ سَيفٌ مِن سُيوفِ اللّه ِ ، لا كَليلُ الظُّبَةِ ولا نابِي ۱ الضَّريبَةِ ؛ فَإِن أمَرَكُم أن
تَنفِروا فَانفِروا ، وإن أمَرَكُم أن تُقيموا فَأَقيموا ؛ فَإِنَّهُ لا يُقدِمُ ولا يُحجِمُ ولا يُؤَخِّرُ ولا يُقَدِّمُ إلاّ عَن أمري ، وقَد آثَرتُكُم بِهِ عَلى نَفسي لِنَصيحَتِهِ لَكُم ، وشِدَّةِ شَكيمَتِهِ عَلى عَدُوِّكُم» .
وكانَت تَعليماتُهُ عليه السلام الحُكومِيَّةُ ـ المَشهورَةُ بِـ «عَهدِ مالِكٍ الأَشتَر» ـ أعظَمَ وأرفَعَ وَثيقَةٍ لِلحُكومَةِ وإقامَةِ القِسطِ ، وهِيَ خالِدَةٌ عَلى مَرِّ التّاريخِ .
وكانَ مُعاوِيَة قَد عَقَدَ الأَمَلَ عَلى مِصر ، وحينَ شَعَرَ أنَّ جَميعَ خُطَطِهِ سَتَخيبُ بِذِهابِ مالِكٍ إلَيها ، قَضى عَلَيهِ قَبلَ وُصولِهِ إلَيها . وهكَذَا استُشهِدَ لَيثُ الوَغى ، وَالمُقاتِلُ الفَذُّ ، وَالنّاصِرُ الفَريدُ لِمَولاهُ ، بِطَريقَةٍ غادِرَةٍ بَعدَما تَناوَلَ مِنَ العَسَلِ المَسمومِ بِسَمٍّ فَتّاكٍ ، وعَرَجَت روحُهُ المُشرِقَةُ الطّاهِرَةُ إلَى المَلَكوتِ الأَعلى .
وحَزِنَ الإِمامُ عليه السلام لِمَقتَلِهِ ، حَتّى عَدَّ مَوتَهُ مِن مَصائِبِ الدَّهرِ . وأبَّنَهُ فَكانَ تَأبينُهُ إيّاهُ فَريدا ؛ كَما أنَّ وُجودَ مالِك كانَ فَريدا لَهُ في حَياتِهِ عليه السلام .
ولَمّا نُعِيَ إلَيهِ مالِك وبَلَغَهُ خَبَرُ استِشهادِهِ المُؤلِمِ ، صَعِدَ المِنبَرَ ، وقالَ :
«ألا إنَّ مالِكَ بنَ الحارِث قَد قَضى نَحبَهُ ، وأوفى بِعَهدِهِ ، ولَقِيَ رَبَّهُ ، فَرَحِمَ اللّه ُ مالِ كا ! لَو كانَ جَبَلاً لَكانَ فِنداً ۲ ، ولَو كانَ حَجَرا لَكانَ صَلداً . لِلّهِ مالِكٌ ! وما مالِك ! وهَل قامَتِ النِّساءُ عَن مِثلِ مالِك ! وهَل مَوجودٌ كَمالِكٍ !» .
ومُعاوِيَة الَّذي كانَ فَريدا أيضا في خُبثِ طَوِيَّتِهِ ورَذالَتِهِ وضَعَتِهِ وقَتلِهِ لِلفَضيلَةِ ، طارَ فَرِحا بِاستِشهادِ مالِكٍ ، ولَم يَستَطِع أن يُخفِيَ سُرورَهُ ، فَقالَ
مِن فَرطِ فَرَحِهِ : «كانَ لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِب يَدانِ يَمينانِ ، فَقُطِعَت إحداهُما يَومَ صِفّين ـ يَعني عَمّارَ بنَ ياسِر ـ وقُطِعَتِ الاُخرىَ اليَومَ ، وهُوَ مالِك الأَشتَرُ .
وكُلَّما كانَ يَذكُرُهُ الإِمامُ عليه السلام ، يَثقُلُ عَلَيهِ الغَمُّ وَالحُزنُ ، ويَتَحَسَّرُ عَلى فَقدِهِ . وحينَ ضاقَ ذَرعا مِنَ التَّحَرُّكاتِ الجائِرَةِ لِأَهلِ الشّام ، وتَأَلَّمَ لِعَدَمِ سِماعِ جُندِهِ كَلامَهُ ، وتَأَوَّهَ عَلى قُعودِهِم وخِذلانِهِم لَهُ في اجتِثاثِ جُذورِ الفِتنَةِ ، قالَ رَجُلٌ :
اِستَبانَ فَقدُ الأَشتَر عَلى أهلِ العِراق . لَو كانَ حَيّا لَقَلَّ اللَّغَطُ ، ولَعَلِمَ كُلُّ اِمرِىً ما يَقولُ .
نَطَقَ هذَا الرَّجُلُ حَقّا ، فَلَم يَكُن أحَدٌ في جَيشِ الإِمامِ عليه السلام مِثلَ مالِك .
حُِكيَ أنَّ مالِ كا الأَشتَرَ كانَ مُجتازا بِسوقِ الكوفَة وعَلَيهِ قَميصُ خامٍ وعِمامَةٌ مِنهُ ، فَرَآهُ بَعضُ السّوقَةِ ۳ فَازدَرى ۴ بِزِيِّهِ ؛ فَرَماهُ بِبُندُقَةٍ تَهاوُنا بِهِ ، فَمَضى ولَم يَلتَفِت ، فَقيلَ لَهُ : وَيلَكَ ! أ تَدري بِمَن رَمَيتَ ؟
فَقالَ : لا .
فَقيلَ لَهُ : هذا مالِك صاحِبُ أميرِ المُؤمِنين عليه السلام ، فَارتَعَدَ الرَّجُلُ ومَضى إلَيهِ لِيَعتَذِرَ مِنهُ ، فَرَآهُ وقَد دَخَلَ مَسجِدا وهُوَ قائِمٌ يُصَلّي ، فَلَمَّا انفَتَلَ أكَبَّ الرَّجُلُ عَلى قَدَمَيهِ يُقَبِّلُهُما ، فَقالَ : ما هذَا الأَمرُ ؟ !
فَقالَ : أعتَذِرُ إلَيكَ مِمّا صَنَعتُ .
فَقالَ : لا بَأسَ عَلَيكَ ، فَوَاللّه ِ ما دَخَلتُ المَسجِدَ إلاّ لَأَستَغفِرَنَّ لَكَ . ۵

1.يقال : نَبا حدُّ السَّيف : إذا لم يَقْطَع (النهاية : ج ۵ ص ۱۱) .

2.الفِنْد من الجبل : أنفه الخارج منه . وقيل : هو المُنفَرد من الجبال (النهاية : ج ۳ ص ۴۷۵) .

3.السُّوْقة من الناس : الرَّعِيَّة (النهاية : ج ۲ ص ۴۲۴) .

4.الازْدِراء : الاحتِقار والانتِقاص والعيب (النهاية : ج ۲ ص ۳۰۲) .

5.تنبيه الخواطر : ج ۱ ص ۲ .


جواهر الحكمة للشّباب
296
  • نام منبع :
    جواهر الحكمة للشّباب
    المساعدون :
    غلامعلي، احمد
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 194640
الصفحه من 366
طباعه  ارسل الي