101
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الألباب ، فكأنها تنطق ، كما ينطق ذوو الألسنة ، كما قيل : ما الأُمور الصامتة الناطقة ؟ فقيل : الدلائل المخبرة، والعبَر الواعظة . وفي الأثر : سل الأرضَ : مَنْ شقَّ أنهاركِ ، وأخرج ثمارَكِ؟ فإن لم تُجبك حواراً ، أجابتْك اعتباراً ۱ .
قوله : « عزبَ رأيُ امرئ تخلف عَنِّي » ، هذا كلام آخر . عزب : أي بَعُدَ ، والعازب : البعيد . ويحتمل أن يكونَ هذا الكلام إخبارا ، وأن يكون دعاء ، كما أنّ قوله تعالى : «حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ »۲ ، يحتمل الأمرين .
قوله : « ما شكَكْتُ في الحق مذ أريته » ، هذا كلام آخر ، يقول : معارفي ثابتة لا يتطرّق إليها الشكّ والشبهة .
قوله : « لم يوجس موسى » ، هذا كلام شريف جدّا ، يقول : إن موسى لما أوجسَ الخيفة ، بدلالة قوله تعالى : « فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى »۳ لم يكن ذلك الخوفُ على نفسه ، وإنما خاف من الفتنة والشُّبْهة الداخلة على المكلّفين عند إلقاء السحرة عصيَّهم ، فخيل إليه من سحرهم أنّها تسعى ، وكذلك أنا لا أخافُ على نفسي من الأعداء الذين نَصَبُوا لِيَ الحبائل ، وأرصدوا لِيَ المكائد ، وسعّروا عليّ نيران الحرب ؛ وإنما أخاف أن يفتتن المكلّفون بشُبههم وتمويهاتهم ، فتقوى دولةُ الضلال ، وتغلب كلمة الجهال .
قوله : « اليوم تواقفنا » ، القاف قبل الفاء ، تواقَف القوم على الطريق ، أي وقفوا كلّهم عليها ؛ يقول : اليوم اتَّضح الحق والباطل ، وعرفناهما نحن وأنتم .
قوله : « مَنْ وثِق بماء لم يظمأ » ، الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء ، وليس يريد

1.لعل الإمام عليه السلام أراد بالعجماء ، الأُمور المبهمة التي أشكلت على أهل عصره ، والقاصرين من أصحابه ، مثل حرب أهل القبلة من الناكثين والقاسطين والمارقين ، ومثل قضية التحكيم ونظائرها ، فيما اعترضوه وأخذوا عليه ، فاستعار لهذه الأُمور العجماء وهي البهيمة التي لا تنطق ، وإن كانت تلك المؤاخذات في حدّ ذاتها واضحة وذات بيان ، ولكنّها أشكلت واستعجمت على وحي القلوب ، فيقول صلوات اللّه عليه : وإني سأجعلها ناطقة بإيضاح أسبابها وإن كانت ذات بيان في نفسها غير محتاجة لذوي الفهم إلى إيضاح . وما ذكره الشارح من إرادة رموزه وإشاراته لا وجه له وغير مناسب للمقام فتدبر ، واللّه العالم . [الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، من تعليقاته على شرح النهج لمحمد عبده ، مخطوط] .

2.سورة النساء ۹۰ .

3.سورة طه ۶۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
100

قوله : « كيف يُرَاعى النبأة » ، هذا مثل آخر ، يقول : كيف يلاحظ ويراعى العِبَر الضعيفةَ مَنْ لم ينتفع بالعِبَر الجليّة الظاهرة ، بل فسد عندها ، وشبّه ذلك بمن أصمته الصَّيْحة القوية ، فإنه محال أن يراعِي بعد ذلك الصوت الضعيف . والنبأة : هي الصوت الخفيّ .
فقوله : « أصْمته الصيحة » ، ليس معناه أنّ الصيحة كانت علّة لصممه ، بل معناه صادفته أصمَّ .
قوله : « رُبط جَنَان لم يفارقْه الخَفَقان » ، هذا مثل آخر ، وهو دعاء لقلب لا يزال خائفا من اللّه يخفُق بالثبوت والاستمساك .
قوله : « ما زلت أنتظر بكم » ، يقول : كنت مترقبا غدرَكم متفرِّسا فيكم الغَرَر ، وهو الغفلة .
وقيل : إنّ هذه الخطبة خَطَبها بعد مقتل طلحة والزبير ، مخاطبا بها لهما ولغيرهما من أمثالهما ، كما قال النبي صلى الله عليه و آله يوم بدر ، بعد قَتْل مَنْ قتل من قريش : « يا عُتْبة بن ربيعة ، يا شيبة ابن ربيعة ، يا عمرو بن هشام » ، وهم جِيَف منتنة قد جُرّوا إلى القَلِيب .
قوله : « سترني عنكم » ، هذا يحتمل وجوها أوضحها : أنّ إظهارَكم شعار الإسلام عصمكم منِّي مع علمي بنفاقكم ، وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصِدْق نيَّتي ، كما يقال : المؤمن يُبْصر بنور اللّه . ويحتمل أن يريد : سترني عنكم جلبابُ ديني ، ومنعني أن أعرِّفكم نفسي وما أقدر عليه من عَسْفكم ، كما تقول لمن استهان بحقّك : أنت لا تعرفُني ولو شئت لعرّفتُك نفسي .
قوله : « أقمت لكم على سَنن الحق » ، يقال : تنحّ عن سَنَن الطريق وسُنن الطريق ، بفتح السين وضمها ، فالأول مفرد ، والثاني جمع سُنّة ، وهي جادّة الطريق والواضح منها ، وأرض مَضَلّة ومَضِلّة : بفتح الضاد وكسرها ، يضلّ سالكها . وأماهَ المحتفِر يميه : أنبط الماء ، يقول : فعلتُ من إرشادكم وأمرِكم بالمعروف ونهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي ، فوقفت لكم على جادّة الحق ومنهجه ؛ حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي ، وأنتم تائهون فيها تلتقون ، ولا دليل لكم ، وتحتفرون لتجِدوا ماء تنقعون به غُلّتكم فلا تظفرون بالماء ، وهذه كلُّها استعارات .
قوله : « اليوم أنطق » ، هذا مثل آخر ، والعجْماء التي لا نطق لها ، وهذا إشارة إلى الرموز التي تتضمَّنها هذه الخطبة ، يقول : هي خفية غامضة ، وهي مع غموضها جليّة لأُولى

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95577
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي