103
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الشّرْحُ :

المفاخرة : أن يذكر كلّ واحد من الرجُلين مفاخرَه وفضائله وقديمه ، ثم يتحاكما إلى ثالث . والماء الآجن : المتغيِّر الفاسد ، أجَنَ الماء ، بفتح الجيم ، يأجِن ويأجُن ، بالكسر والضم . اللَتَيّا والإيناع : إدراكُ الثمرة . واللتيّا : تصغير التي ، كما أنّ اللَذَيّا تصغير الذي . واندمجتُ : انطويتُ . والطوِيّ : البئر المطويّة بالحجارة . يقول : تخلّصُوا عن الفتنة وانْجُوا منها بالمتاركة والمسالمة والعدول عن المنافرة والمفاخرة .
أفلح مَنْ نهض بجناح ، أي مات ، شبَّه الميِّت المفارقَ للدنيا بطائر نهضَ عن الأرض بجناحه . ويحتمل أن يريد بذلك : أفلح مَن اعتزل هذا العالم ، وساح في الأرض منقطعاً عن تكاليف الدنيا . ويحتمل أيضا أن يريد أفلح مَنْ نهض في طلب الرياسة بناصر ينصره ، وأعوان يجاهدون بين يديه ؛ وعلى التقادير كلّها تنطبق اللفظةُ الثانية ، وهي قوله : « أو استسلم فأراح » ، أي أراح نفسه باستسلامه .
ثم قال : الإمْرَة على الناس وخيمة العاقبة ، ذات مشقّة في العاجلة ، فهي في عاجلها كالماء الآجن يجدُ شاربه مشقّة ، وفي آجلها كاللقمة التي تَحْدُث عن أكلها الغُصَّة . ويجوز ألاّ يكون عَنَى الإمْرة المطلقة ، بل هي الإمْرة المخصوصة ، يعني بيعةَ السقيفة .
ثم أخذ في الاعتذار عن الإمساك وترك المنازعة ، فقال : مجتنِي الثمرة قبل أن تُدْرك لاينتفع بما اجتناه ، كمن زرع في غير أرضه ، ولا ينتفع بذلك الزرع ؛ يريد أنّه ليس هذا الوقت هو الوقت الذي يَسُوغ لي فيه طلب الأمر ، وأنّه لم يَأْن بعد . ثم قال : قد حَصَلْت بين حالين ؛ إن قلت ، قال الناس : حَرَص على المُلْك ، وإن لم أقل ، قالوا : جَزِع من الموت .
قال : هيهات ، استبعادا لظنّهم فيه الجزع . ثم قال : « اللتيّا والتي » ، أي أبعد اللتيّا والتي أجزع ؟! أبَعْدَ أن قاسيتُ الأهوال الكبار والصغار ، ومُنِيت بكل داهية عظيمة وصغيرة ؟! فاللتيّا الصغيرة والتي الكبيرة . ذكر أنّ أُنْسَه بالموت كأُنْسِ الطفل بثدي أمه ، وأنّه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة ، وأنّ ذلك العلم لا يُباح به ، ولو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشِية ، وهي الحبال في البئر البعيدة القعر ، وهذا إشارة إلى الوصيّةِ التي خُصّ بها عليه السلام ، أنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه ۱ .

1.روي عن ابن عباس قال : لما دفن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، جاء العباس وأبو سفيان وجماعة من بني هاشم إلى علي عليه السلام ، فقالوا مدّ يدك نبايعك ، فحرّضوه ، فامتنع ، فقال له العباس : أنت واللّه بعد أيام عبد العصا ، يريد أنك ستمنع من حقّك وتساق بها إلى البيعة سوقاً . وقال له أبو سفيان فيما قال : إن شئتَ ملأتُها خيلاً ورجلاً . فخطب عليه السلام ، وقال : أيها الناس شقوا أمواج الفتن ... الخ . رواه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ۵:۱۲۸ ، ومثله نقل ابن الجوزي في المناقب ، وعنه نقل المجلسي في بحار الأنوار ۵:۴۵ . وروى الشيخ المفيد ، أن العباس لما ألحّ على الإمام عليه السلام ، قال عليه السلام : « يا عم ، إنّ النبي أوصى إليّ وأوصاني أن لا أُجرّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً ، وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى يجعل اللّه عزّوجلّ لي مخرجاً » . العيون والمحاسن ، ونقله السيد المرتضى في الفصول المختارة ۲ : ۲۰ ، ۲۰۴ . ومن كلام للإمام عليه السلام مع أبي سفيان في هذا اليوم : « إنك تريد أمراً لسنا من أصحابه ، وقد عهد إليّ رسول اللّه عهداً فأنا عليه » ، وقد تحدّث عن ذلك العهد الفضل بن العباس من كلام له مع قريش بعد أيام من السقيفة ، فقال : « وإنا لنعلم أنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه » شرح نهج البلاغة ۶ : ۱۸ . كان ذلك العهد قد عهده رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأمر المؤمنين عليه السلام في يوم الإثنين وفي اللحظات الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه و آله وسلم حينما كان مستنداً إلى صدر الإمام علي عليه السلام وهو يسارّه ، وقد وضع له دستوراً يسير في حدوده إلى المطالبة بحقّه ولا يحيد عنه مهمّا كلّف الحال . انظر : طبقات ابن سعد ۲ : ۵۱ ، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ۳ : ۱۳۸ ـ ۱۳۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
102

النفيَ المطلق ؛ لأنّ الواثق بالماء قد يظمأ ، ولكن لا يكون عطشه على حدّ العطش الكائن عند عدم الماء ، وعدم الوثوق بوجوده .
يقول : إن وثقتم بي وسكنتم إلى قولي ، كنتم أبعدَ عن الضَّلال وأقربَ إلى اليقين وثَلَج النفس ، كمن وَثِقَ بأنّ الماء في إداوته ، يكون عن الظمأ وخوف الهلاك من العطش أبعدَ ممّن لم يثقْ بذلك .

5

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام لما قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله
وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
أَيُّها النَّاسُ ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الْمُنَافَرَةِ وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ . أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بجَنَاحٍ ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ . هـذَا مَاءٌ آجِنٌ ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا . وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إينَاعِهَا ، كَالزَّارِعِ بِغَيرِ أَرْضِهِ .
فَإنْ أَقُلْ يَقُولُوا : حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا : جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ ! هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَتَيَّا وَالَّتِي ! وَاللّهِ لاَبْنُ أَبي طَالِبٍ آنَسُ بالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ ۱ !

1.المنافرة : المفاخرة . أفلح : فاز . اجتنى الثمرة : اقتطفها . عرّجوا : ميلوا . أجن الماء : تغيّر لونه وطعمه ، فسد . المكنون : المستور . الأرشية : الحبال . الطويّ : البئر البعيدة ، العميقة .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95531
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي