121
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

والمبهمات : المشكلات ؛ وإنّما قيل لها مُبْهمَة ؛ لأنّها أُبْهِمَت عن البيان ، كأنها أُصمِتَتْ فلم يُجْعَلْ عليها دليل ولا إليها سبيل ، أو جعل عليها دليل وإليها سبيل ؛ إلاّ أنّه متعسّر مستَصعَب ؛ ولهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان : بَهيمة ، وقيل للمصمَت اللّون الذي لا شِيَةَ فيه بَهيم.
وقوله : « حشوا رثاً » كلام مخرجه الذمّ ، والرثّ ، الخَلَق ، ضدّ الجديد . وقوله « حشواً » ، يعني كثيرا لا فائدة فيه . وعاشٍ : خابطٌ في ظلام . وقوله : « لم يَعضّ » يريد أنه لم يتقِنْ ولم يُحكم الأُمور ، فيكون بمنزلة من يَعضُّ بالنّاجذ ، وهو آخر الأضراس . وإنما يطلع إذا استحكمت شبيبةُ الإنسان واشتدّتْ مِرّته ؛ ولذلك يدعوه العوام ضِرْس الحِلْم ، كأنّ الحِلْمَ يأتي مع طلوعه ، ويَذْهب نَزَق الصِّبا ؛ ويقولون : رجلٌ مُنَجَّذ ، أي مجرّب مُحْكَم ، كأنه قد عضّ على ناجذه وكَمَل عقلُه .
وقوله : « يُذْرِي الروايات » هكذا أكثر النسخ ، وأكثر الروايات « يُذْرِي » من « أَذْرَى » رباعياً ؛ وقد أوضحه قوله : « إذْرَاء الريح » ، يقال : طعنه فأذْراه ، أي ألقاه ، وأذريتُ الحَبّ للزرع ، أي ألقيته ، فكأنه يقول : يُلْقِي الروايات كما يُلْقِي الإنسان الشيء على الأرض ؛ والأجود الأصح الرواية الأُخرى « يَذْرُو الرِّواياتِ ذَرْوَ الريح الهشيم » ، وهكذا ذكر ابن قتيبة في « غريب الحديث » لمّا ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال تعالى : « فَأَصْبَحَ هَشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ » ، والهشيم : ما يبس من النَّبْت وتفتّت .
قوله : « لامليّ » أي لا قيّم به ، وفلان غنيّ مليء ، أي ثقة بيّن الملأ والملاء ، بالمد . وفي كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام : « ولا أهل لما قُرّظ به » ، قال : أي ليس بمستحق للمدح الذي مُدح به . والذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين عليه السلام هو الصحيح الجيّد ؛ لأنّه يُستقبَح فيالعربية أن تقول : لا زيدَ قائم ، حتى تقول : ولا عمرو . أو تقول : ولا قاعد ؛ فقوله عليه السلام : « لا مليّ » أي لا هُوَ مليء ، وهذا يستدعى « لا » ثانية ، ولا يحسن الاقتصار على الأُولى .
وقوله عليه السلام : « اكتتم به » أي كتمه وستره . وقوله : « تصرُخ منه وتعَجّ » . العجّ : رفع الصوت ؛ وهذا من باب الاستعارة . وفي كثير من النسخ : « إلى اللّه أشكو » ، فمن روى ذلك وقف على « المواريث » ، ومن روى الراوية الأُولى وَقَف على قوله :


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
120

وَدُعَاءِ ضَلاَلَةٍ ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ ، ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ، مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ في حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ .
وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً ، مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ ، عَادٍ في أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ ، عَمٍ بِمَا في عَقْدِ الْهُدْنَةِ ؛ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِما وَلَيْسَ بِهِ ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ ؛ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَحَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ ، وَاكْتَنَزَ مِن غَيْرِ طَائِلٍ ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِيا ضَامِنا لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْوا رَثّا مِنْ رَأْيِهِ ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ . لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ ؛ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ . جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاَت ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَات ، لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ . يُذري الرِّوَايَاتِ إذراء الرِّيحِ الْهَشِيمَ . لاَ مَلِيٌّ ـ وَاللّهِ ـ بِإصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ ، وَلاَ أَهْلٌ لِمَا فُوّض إليه لاَ يَحْسَبُ الْعِلْمَ في شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَبا لِغَيْرِهِ ، وَإنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ ، وَتَعُجُّ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ . إِلَى اللّهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعيِشُونَ جُهَّالاً ، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً ، لَيْسَ فِيهمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُِليَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ، أَنْفَقُ بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ!

الشّرْحُ :

وكله إلى نفسه : تركه ونفسَه ، وكلْتُه وَكْلاً ووُكولاً . والجائر : الضالّ العادل عن الطريق . وقَمَش جهلاً : جمعه . ومُوضِع : مسرع ؛ أوضع البعيرُ أسرع ، وأوضعه راكبُه فهو مُوضِعٌ به ، أي أسرع به . وأغْباش الفتنة : ظُلمها ، الواحد غَبَش ، وأغباش الليل : بقايا ظُلمته . والماء الآجن : الفاسد . واكتثر » ، كقولك : « استكثر ، ويروى : « اكتنز » ، أي اتخذ العلم كنزاً . والتخليص : التبيين ، وهو والتلخيص متقاربان ، ولعلّهما شيء واحد من المقلوب .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95628
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي