149
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

بلغه خِذْلان أهل الكوفة ، وتقاعدهم به :
« لعبد اللّه عليّ أمير المؤمنين عليه السلام ، من عَقيل بن أبي طالب . سلام عليك ، فإنّي أحمَد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أما بعد ؛ فإنّ اللّه حارِسُك من كلّ سوء ، وعاصمُك من كلّ مكروه ، وعلى كلّ حال ؛ إنّي قد خرجت إلى مكة معتمرا ، فلقيت عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح في نحو من أربعين شابّا من أبناء الطُّلقَاء ، فعرفتُ المنكرَ في وجوههم ، فقلت : إلى أين يا أبناءَ الشانئين ! أبمعاوية تلحقون ! عداوة واللّه منكم قديما غيرُ مستنكَرة ؛ تريدُون بها إطفاءَ نور اللّه ، وتبديلَ أمره . فأسمَعني القومُ وأسمعْتُهم ، فلما قدِمْتُ مكة ، سمعت أهلَها يتحدثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة ، فاحتمل من أموالها ما شاء ، ثم انكفأ راجعا سالما . فأُفٍّ لحياةٍ في دهرٍ جَرّأ عليك الضّحاك ! وما الضحاك ! فَقْعٌ بقُرْقر ! وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أنّ شيعتَك وأنصارك خذلوك ، فاكتب إليّ يابن أُمّي برأيك ، فإن كنتَ الموتَ تريد ، تحمّلت إليك ببني أخيك ، وولد أبيك ، فعِشْنَا معك ما عشت ، ومِتْنَا معك إذا متَّ ؛ فو اللّه ما أُحِبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فُوَاقا .
وأُقسِم بالأعزّ الأجَلّ ، إنّ عيشا نعيشُه بعدك في الحياة لغيرُ هنيء ولا مريء ولا نجيع ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته » .
فكتب إليه عليه السلام : من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى عَقيل ابن أبي طالب . سلام اللّه عليك ، فإنّي أحمَدُ إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد : كلأنا اللّه وإياك كلاءة مَنْ يخشاه بالغيب ، إنه حميد مجيد . قد وصل إليّ كتابُك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزديّ ، تذكر فيه أنّك لقيت عبد اللّه بن سَعْد بن أبي سَرْح مقبلاً من قُدَيْد في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطُّلقاء ، متوجِّهين إلى جهةِ الغرب ، وإنّ ابن أبي سَرْح طالما كاد اللّه ورسوله وكتابه ، وصدَّ عن سبيله وبغاها عِوِجا ؛ فدع ابنَ أبي سرح ، ودعْ عَنْكَ قريشا ، وخلِّهم وتَرْكاضَهم في الضلال ، وتَجْوالهم في الشّقاق . ألا وإنّ العرب قد أجمعتْ على حربِ أخيك اليوم إجماعَها على حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقّه ، وجحدوا فضله ، وبادروه العداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهِدوا عليه كلّ الجهد ، وجرُّوا إليه جيش الأحزاب . اللهمّ فاجز قريشاعنّي الجوازي ! فقد قَطَعتْ رَحِمي ، وتظاهرَتْ عليّ ، ودفعتني عن حَقّي ، وسلبتني سلطانَ ابن أُمّي ، وسلّمت ذلك إلى مَنْ ليس مثلي في قرابتي من الرسول ، وسابقتي في الإسلام ! إلاّ أنْ يَدّعيَ مدّعٍ ما لا أعرفه ، ولا أظن اللّه يعرفه ، والحمد للّه على كل حال .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
148

أَقَوْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ ! وَطَمَعا فِي غَيْرِ حَقٍّ ۱ !

الشّرْحُ :

حِيدي حَيَاد : كلمة يقولها الهارب الفارّ ، وهي نظيرة قولهم : « فيحي فَياح » ، أي اتّسعي ، وصَمّي صَمامِ ، للداهية . وأصلُها من حاد عن الشيء ، أي انحرفَ ، وحَيَادِ ، مبنيّة على الكسر ، وكذلك ما كان من بابها ، نحو قولهم : بَدَارِ ، أي ليأخذْ كلّ واحدٍ قِرْنه . وقولهم : خَراجِ في لعبة للصبيان ، أي اخرجوا . والباء في قوله : « بأضاليل » متعلقة بـ « أعاليل » نفسها ، أي يتعلّلون بالأضاليل التي لا جَدْوى لها . والسَّهم الأفْوَق : المكسور الفُوق ، وهو مَدْخَل الوتَر . والناصل : الذي لا نَصْل فيه ؛ يخاطبهم فيقول لهم : أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة ، متكلّمون بما هو في الشدّة والقوة يُوهِي الجبال الصمّ الصلْبة ، وعند الحرب يظهر أنّ ذلك الكلام لم يكن له ثمرة .
تقولون في المجالس : كَيْتَ وكَيْت ، أي سنفعل وسنفعل ، وكَيْت وكَيْت كناية عن الحديث ، كما كُنِيَ بفلان عن العلَم ، ولا تستعمل إلاّ مكرّرة ، وهما مخفّفان من « كَيّة » وقد استعملت على الأصل ، وهي مبنية على الفتح . وقد رَوَى أئمة العربية فيها الضمّ والكسر أيضا . فإذا جاء القتال فررتم وقلتم : الفِرارَ الفِرارَ .
ثم أخذ في الشكوى ، فقال : مَنْ دعاكم لم تعزّ دعوتُه ، ومَنْ قاساكم لم يسترِحْ قلْبُه . دأْبُكم التعلّل بالأُمور الباطلة ، والأمانيّ الكاذبة . وسألتموني الإرْجاءَ وتأخُّر الحرب كمن يمطُل بديْن لازمٍ له . والضَّيْم لا يدفعه الذليل ، ولا يدرَك الحقّ إلاّ بالجِدّ فيه والاجتهاد وعدم الانكماش .
وباقي الفصل ظاهر المعنى .
وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام في غارة الضحاك بن قيس .
قال : وكتب في أثر هذه الوقعة عَقِيل بن أبي طالب رضى الله عنه إلى أخيه أمير المؤمنين عليه السلام ، حين

1.أهواؤهم : آراؤهم وميولهم . الصم : جمع (الأصم ) وهو الأطرش ، والمراد به هنا الحجر . الصلاب : جمع ( الصلب ) وهو الشديد . حيدي حياد : تنحي عنّا أيتها الحرب . قاساكم : أخذكم بالقسوة والشدّة . أعاليل : جمع أُعلولة ، ما يحتج به ويجعله علة لعمله . أضاليل : جمع أُضلولة ضد الهدى . المطول : التسويف . الأخيب : الخاسر . الأفوق : السهم الذي كسر طرفه من جهة الوتر . النصل : حديدة السهم والرمح .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95615
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي