153
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

32

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ ، وَزَمَنٍ شَدِيدٍ ، يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئا ، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّا ، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا ، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا ، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا . وَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ :
مِنْهُمْ : مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ في الْأَرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ ، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ ، وَنَضِيضُ وَفْرِهِ .
وَمِنْهُمْ : الْمُصْلِتُ بِسَيْفِهِ ، وَالْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ ، وَالْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ ، وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ ، أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ ، أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ . وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَنا ، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللّهِ عِوَضا!
وَمِنْهُمْ : مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا ، قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ ، وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ ، وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ .
وَمِنْهُمْ : مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ ، وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ ، فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ في مَرَاحٍ وَلاَ مَغْدىً .
وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ ، وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ ، وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ ، وَدَاعٍ مُخْلِصٍ ، وَثَكْلاَنَ مُوجَعٍ ، قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ ، فَهُمْ في بَحْرٍ أُجَاجٍ ، أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ ، وَقُلُوبُهُمْ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
152

قال الرضي رحمه الله :
وَهو عليه السلام أَوَّلُ مَنْ سُمِعَتْ منْهُ هذه الْكَلمة ، أَعنِي : « فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا » .

الشّرْحُ :

ليستفيئه إلى طاعته ، أي يسترجعه ؛ فاء ، أي رجع ، ومنه سُمِّيَ الفيء للظلّ بعد الزوال . وجاء في رواية : « فإنك إن تَلْقَه تُلْفِه » أي تجده ، ألفيتُه على كذا ، أي وجدته . وعاقصاً قَرْنه ، أي قد عَطَفه ، تَيْس أعقص ، أي قد التوى قرناه على أُذنيه ، والفعل فيه عَقَص الثور قرنه ، بالفتح .
وقوله : « يركب الصَّعْب » ، أي يستهين بالمستصعَب من الأُمور ، يصفه بشَراسة الخُلقُ والبَأْو ۱ ، وكذلك كان طلحة ، وقد وصَفَه عمر بذلك . ويقال : إنّ طلحة أحدَثَ يومِ أُحُدٍعنده كِبْرا شديداً لم يكن ، وذاك لأنّه أغْنَى ۲ في ذلك اليوم ، وأبلى بلاءً حسناً . والعريكة هاهنا : الطبيعة ، يقال : فلان لَيّن العرِيكة ، إذا كان سَلِسا .
وقوله عليه السلام لابن عباس : « قل له يقول لك ابن خالك » لطيف جدا ، وهو من باب الاستمالة والإذْ كار بالنَّسب والرحِم ، ألا تَرَى أنّ له في القلْب من الموقع الداعي إلى الإنقياد ما ليس لقوله : « يقول لك أمير المؤمنين » ! ومن هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى وهارون : « وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ، لما رأى هارون غضب موسى واحتدامه ، شرع معه في الاستمالة والملاطفة ، فقال له : « ابن أُم » وأذكره حقَّ الأُخوة ، وذلك أدعى إلى عطْفه عليه من أن يقول له : « يا موسى » أو« يا أيها النبي » .
فأمّا قوله عليه السلام : « فما عدا مما بدا » ، فعدَا بمعنى صرف و « مِنْ » ها هنا بمعنى « عن » .
ويصير ترتيبُ الكلام وتقديره : فما صرَفك عَمّا كان بدا منك ! أي ظَهَر ، والمعنى : ما الّذي صدَّك عن طاعتي بعد إظهارك لها!

1.البأو : الفخر والادعاء .

2.أغنى ، أي صرف الأعداء وكفّهم .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95541
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي