171
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

كَيْفَ الْمَرْجِعُ .
وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْسا ، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ .
مَا لَهُمْ ! قَاتَلَهُمُ اللّهُ ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللّهِ وَنَهْيِهِ ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقَدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ ۱ .

الشّرْحُ :

يقال : هذا توأم هذا ، وهذه توأمته ، وهما توأمان ؛ وإنما جُعل الوفاء توأم الصدق ؛ لأنّ الوفاء صدقٌ في الحقيقة ؛ أَلا تَرى أنّه قد عاهد عَلَى أمرٍ وصدق فيه ولم يُخْلِف ؛ وكأنهما أعمّ وأخصّ ، وكل وفاءٍ صدق ، وليس كلّ صدقٍ وفاء ، فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسميةُ الوفاء صدقا فلأمرٍ آخر ؛ وهو أنّ الوفاء قد يكون بالفعل دون القول ، ولا يكون الصدق إلاّ في القول ؛ لأنّه نوع من أنواع الخبر ، والخبر قول .
ثم قال : « ولا أعلم جُنّة » أي درعا أوقَى منه ، أي أشدّ وقاية وحفظا ؛ لأنّ الوفيّ محفوظ من اللّه ، مشكور بين الناس .
ثم قال « وما يغدر مَنْ عَلِمَ كيف المرجع » ، أي مَنْ علم الآخرة وطوَى عليها عقيدته ، منعه ذلك أن يغدِر ؛ لأنّ الغدر يُحْبِط الإيمان .
ثمّ ذكر أنّ الناس في هذا الزمانِ ينسبون أصحاب الغدر إلى الكَيْس ، وهو الفِطْنة والذكاء ، فيقولون لمن يخدَع ويغدِر ، ولأرباب الجريرة والمكْر : هؤلاء أذكياء أكياس ؛ كما كانوا يقولون فيعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وينسُبون أربابَ ذلك إلى حسن الحيلة وصحّة التدبير .
ثم قال : « ما لهم قاتَلهم اللّه » ! دعاء عليهم .

1.الجُنّة : الوقاية . الكَيْس : العقل ، الفطنة . الحوّل : البصير بتحويل الأُمور . القلَّب : الخبير بتقلّبها . وجه الحيلة : مأخذها وسبلها . ينتهز : يبادر . الحريجة : التحرج والتحرز من الآثام .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
170

فإنْ قيل : ذكرتم أنّ الناس كافّة قالوا بوجوب الإمام ، فكيفَ يقول أمير المؤمنى عليه السلام عن الخوارج إنّهم يقولون : « لا إمرة » .
قيل : إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ، ويذهبون إلى أنّه لا حاجةَ إلى الإمام ، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمّروا عليهم عبدَ اللّه بن وهب الرّاسبيّ .
فإن قيل : فسّروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين عليه السلام .
قيل : إنّ الألفاظَ كلَّها ترجع إلى إمرة الفاجر .
قال : يعمل فيها المؤمن ، أي ليست بمانعة للمؤمن من العمَل ؛ لأنّه يمكنه أن يصليَ ويصوم ويتصدّق ؛ وإن كان الأمير فاجرا في نفسه .
ثم قال : « ويستمتع فيها الكافر » أي يتمتّع بمدته ، كما قال سبحانه للكافرين : « قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكُمْ إلَى النَّارِ »۱ .
ويبلّغ اللّه فيها الأجل ؛ لأنّ إمارة الفاجر كإمارة البَرّ ، في أنّ المدة المضروبة فيها تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان .
ثم قال : « ويجمَع به الفيء ، ويقاتَل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويُؤخذ به للضّعيف من القويّ » ، وهذا كلُّه يمكن حصوله في إمارة الفاجر القويّ في نفسه ، ثم قال عليه السلام : « فتكون هذه الأُمور حاصلة إلى أن يستريحَ برّ بموته ، أو يُسترَاح من فاجر بموته أو عزله » .
فأمّا الرواية الثانية ، فإنّه قد جعل يعمل فيها التقيّ الإمرة خاصة . وباقي الكلام غنيّ عن الشرح .

41

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقى مِنْهُ ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ

1.سورة إبراهيم ۳۰ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95573
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي