347
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

تعمّدا ، ولا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطاً . والضِّلّيل : الكثير الضلال ، كالشِّرّيب والفِسّيق ونحوهما . وهذا كناية عن عبد الملك بن مروان ؛ لأنّ هذه الصفات والأمارات فيه أتمّ منها في غيره ؛ لأ نّه قام بالشام حين دَعَا إلى نفسه ، وهو معنى نعيقه ، وفَحَصت راياته بالكوفة ، تارة حين شخص بنفسه إلى العراق وقَتل مُصعباً ، وتارةً لمّا استخلَف الأُمراء على الكوفة كبشْر بن مروان أخيه وغيره ، حتى انتهى الأمر إلى الحجّاج ، وهو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك وثِقَل وطأته ، وحينئذٍ صَعُب الأمر جِدّا ، وتفاقمت الفِتَن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث ، فلمّا كَمَل أمرُ عبد الملك ـ وهو معنى « أينع زرعه » ـ هلك ، وعقدت رايات الفتن المعضلة من بعده ، كحروب أولاده مع بني المهلّب ، وكحروبهم مع زيد بن علي عليه السلام ، وكالفتن الكائِنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر وخالد القسريّ وعمر بن هبيرة وغيرهم ، وما جرى فيها من الظلم واستئصال الأموال ، وذهاب النفوس .
وقد قيل : إنه كَنَى عن معاوية وما حدَث في أيامه من الفتن ، وما حدث بعده من فتنة يزيد ، وعبيد اللّه بن زياد ، وواقعة الحسين عليه السلام ، والأوّل أرجح ؛ لأنّ معاوية في أيام أمير المؤمنين عليه السلام كان قد نعَقَ بالشام ، ودعاهم إلى نفسه ، والكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد ، ألا تراه يقولُ : لكأنّي أنظر إلى ضلّيل قد نَعَق بالشام!
ثم نعود إلى تفسير الألفاظ والغريب .
النعيق : صوت الراعِي بغنمه ، وفَحَص براياته ، من قولهم : ما له مفحَص قطاة ، أي مجثمها ، كأنهم جعلوا ضواحيَ الكوفة مفحَصا ومجثما لراياتهم . وكوفان : اسم الكوفة ، والكوفة في الأصل : اسم الرملة الحمراء ، وبها سمّيت الكوفة . وضواحيها : نواحيها القريبة منها البارزة عنها ؛ يريد رُسْتاقها . وفغرت فاغرته : فتح فاه ، وهذا من باب الاستعارة ، أي إذا فتك فتح فاه وقتل ؛ كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس ، والتأنيف للفتنة . والشكيمة في الأصل : حديدة معترِضة في اللجام في فم الدابة ، ثم قالوا : فلان شديدُ الشّكيمة ، إذا كان شديدَ المراس شديد النفس عَسِر الانقياد . ثقلت وطأته : عظم جَوْره وظلمه . وكلوح الأيام : عبوسها . والكدوح : الآثار من الجراحات ، والكدوح : الواحد الكَدْح ، أي الخدش .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
346

النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَاللّهِ ۱ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ ، وَلاَ جَهِلَ السَّامِعُ .
لَكَأَنِّيأَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ ، وَفَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ . فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ ، وَاشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ ، وَثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ ، عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا ، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا ، وَبَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا ، وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا . فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ ، وَقَامَ عَلَى يَنْعِهِ ، وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ ، وَبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ ، عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ ، وَأَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ ، وَالْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ .
هذا ، وَكَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ وَيَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ ! وَعَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ ، وَيُحْصَدُ الْقَائِمُ ، وَيُحْطَمُ الْمحْصُودُ!

الشّرْحُ :

في الكلام محذوف ، وتقديره : « لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني » ، والمفعول فضلة وحذفه كثير . لا يجرمنّكم: لا يحملنّكم، وقيل: لا يكسبنّكم ، وهو من الألفاظ القرآنية . ولا يستهوينَّكم: أي لا يستهيمنّكم ، يجعلكم هائمين . ولا تترامَوْا بالأبصار، أي لا يلحَظُ بعضكم بعضا ؛ فعلَ المنكرِ المكذّب .
ثم أقسم بالذي فَلَق الحبّة، وبرأ النسمة، فَلَق الحبّة من البر، أي شقّها وأخرج منها الوَرق الأخضر . وبرأ النّسمة ، أي خلق الإنسان، وهذا القَسَم لا يزال أميرُ المؤمنين يُقسِم به، وهو من مبتكراته ومبتدعاته . والمبلّغ والسامع هو نفسه ۲ عليه السلام ، يقول : ما كذبتُ على الرسول

1.في نسخ أُخرى جاء فيها : صلّى اللّه عليه وآله ، ما كذب المبلّغ ... الخ وهو الموافق للصواب من جهتين : الأُولى : محال أن تصدر من أمير المؤمنين عليه السلام صلاة بتراء على النبيّ ، بعد أن سمع قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء » ، بل هو عليه السلام الراوي : « كل دعاء محجوب حتى يُصلّى على محمد وآل محمد » ، فكيف تراه هو يبترها في خطبة ؟! المعجم الأوسط ۱ : ۴۰۸ ح۷۲۵ ، مجمع الزوائد ۱۰ : ۱۶۰ ، شرح المواهب اللدنّيّة ۷ : ۷ ، الصواعق المحرقة : ص۱۴۸ . الثانية : كان في بداية الكلام قد أقسم بالذي فلق الحبة ... فما الداعي أن يكرر القسم بلفظ الجلالة فيما بعد ؟! وعليه فلفظ الجلالة هو تتمة الصلاة على النبي وآله . فلابدّ أن تكون لفظة واللّه هي (وآله) في الأصل .

2.ذكر الشارح : « عنى عليه السلام بالمبلّغ والسامع مع نفسه عليه السلام » . وهو محل نظر ، بل ظاهر السياق والأوفق بالمعنى ، أنْ يكون المراد بالمبلّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والسامع نفسه ، وهو جلي بعد أدنى تأمّل . « الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، في تعليقته على شرح النهج لمحمد عبده المخطوطة » .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95566
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي