351
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

رَحِمَ اللّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ ، وَاعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلَيلٍ لَمْ يَزَلْ ، وَكُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ ، وَكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ .

الشّرْحُ :

الصادفين عنها ، أي المعرضين ، وامرأة صدوف : التي تعرض وجهها عليك تصدِف عنك . وعَمّا قليل : عن قليل ، وما زائدة . والثاوي : المقيم ، ثوى يثوِي ثواءً وثُوِيّا ، مثل مضى يمضي مضاءً ومُضيّا ، ويجوز ثويتُ بالبصرة وثويت البصرة ، وجاء « أثويتُ بالمكان » ، لغة في «ثويت». والمترَف : الذي قد أترفْته النعمة ، أي أطغتْه ، يقول عليه السلام : لا يعود على الناس ما أدبر وتولّى عنهم من أحوالهم الماضية ، كالشباب والقوّة ، ولا يُعلم حال المستقبل من صحّة أو مرض ، أو حياة أو موت لينتظر . ومشوب : مخلوط . شبته أشوبه فهو مشوب . والجلَد : الصلابة والقوة . والوهَن : الضعف نفسه .
ثم نهى عن الاغترار بكثرة العُجْب من الدنيا ، وعلّل حسنَ هذا النهي ، وقبّح الاغترار بما نشاهده عياناً من قِلّة ما يصحب مفارِقيها منها . ثم جعل التفكّر علة الاعتبار ، وجعل الاعتبار علّة الإبصار ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الفكر يوجب الاتّعاظ ، والاتّعاظ يُوجب الكشف والمشاهدة بالبصيرة التي نورها الاتّعاظ . ثم ذكر أنّ ما هو كائن وموجود من الدنيا سيصير عن قليل ـ أي بعد زمان قصير ـ معدوما ، والزمان القصير هاهنا : انقضاء الأجل وحضور الموت . ثم قال : إنّ الذي هو كائن وموجود من الآخرة سيصير عن قليل ـ أي بعد زمان قصير أيضا ـ كأنّه لم يزل ، والزمان القصير هاهنا هو حضور القيامة ؛ وهي وإن كانت تأتي بعد زمان طويل ، إلاّ أنّ الميت لا يحسّ بطوله ، ثم قال : كلّ معدود منقضٍ ، وهذا تنبيه بطريق الاستدلال النظريّ على أنّ الدنيا زائلة ومنصرفة ؛ وقد استدلّ المتكلّمون بهذا على أنّ حركات الفلك يستحيل ألاّ يكون لها أول ، فقالوا : لأنها داخلة تحت العدد ، وكلّ معدود يستحيل أن يكون غير متَناهٍ .
ثم ذكر أن كلّ ما يتوقع لابدّ أن يأتِيَ ، وكلّ ما سيأتي فهو قريب ، وكأنه قد أتى .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
350

بالراكب . والكَلب : الشدّة من البرد وغيره ، ومثله الكُلْبة ، وقد كَلِب الشتاء ، وكَلِب القحط ، وكَلِب العدوّ ، والكَلَب أيضا : الشّرّ ، دفعت عنك كَلَب فلان ، أي شرّه وأذاه . وقوله : « قليل سَلَبُهم » ، أي همهم القتل لا السلب .
ثم ذكر عليه السلام أنّ هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة ، كما قال اللّه تعالى : « أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين »۱ ، وذلك من صفات المؤمنين . ثم قال : هم مجهولون عند أهل الأرض لخمولهم قبل هذا الجهاد ؛ ولكنهم معروفون عند أهل السماء ، وهذا إنذار بملحَمةٍ تجري في آخر الزمان ؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله وسلم بنحو ذلك .
ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نِقم اللّه لا رَهَج له ولاَ حسّ ، الرَّهج : الغبار ، وكنّى بهذا الجيش عن جَدْب وطاعون يصيب أهلَها حتى يبيدَهم . والموت الأحمر ، كناية عن الوباء والجوع . الأغبر : كناية عن المحْل ، وسمِّي الموت الأحمر لشدّته ، ومنه الحديث : كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه . ووصف الجوع بأنه أغبر ؛ لأنّ الجائع يرى الآفاق كأنّ عليها غبرة وظلاما ، وفسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزَّنج ، وهو بعيد ؛ لأنّ جيشه كان ذا حسّ ورهَج .

102

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامانْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا ، الصَّادِفِين عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا وَاللّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الاْمِنَ؛ لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مَنْهَا فَأَدبَرَ ، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَر . سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ ، وَجَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالوَهْنِ ، فَـلاَ يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا .

1.سورة المائدة ۵۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95458
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي