439
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاس ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً ، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللّهِ وَفْراً ، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً ! أَيْنَ أخيَارُكُمْ وَصُلَحَاؤكُمْ ! وَأَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤكُمْ ؟! وَأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ ، وَالْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ ؟ أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ ، وَالْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ . وَهَلْ خُلِّفْتُم إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ ، وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ ؟! فَإِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!
ظَهَرَ الْفَسَادُ ، فَـلاَ مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ ، وَلاَ زَاجرٌ مُزْدَجِرٌ . أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ ؟ هَيْهَاتَ ! لاَ يُخْدَعُ اللّهُ عَنْ جَنَّتِهِ ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ . لَعَنَ اللّهُ الاْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ!

الشّرْحُ :

أثوياء : جمع ثوِيّ ، وهو الضيف ، كقويّ وأقوياء . ومؤجّلون : مؤخَّرون إلى أجَل ، أي وقت معلوم . ومدينُون : مُقْرَضُون ، دِنْتُ الرجل أقرضتُه ، فهو مدين ومديون ، ودنت أيضاً ، إذا استقرضت ، وصار عليّ دين ، فأنا دائن . ومقتضَوْن: جمع مقتضَى ، أي مطالَب بأداء الدين ، كمرتضوْن جمع مرتَضى ، ومصطفوْن جمع مصطفَى . وقوله : « أجل منقوص » ، أي عمر ، وقد جاء عنهم : أطال اللّه أجَلك ، أي عمرَك وبقاءك . والدائب : المجتهد ذو الجِدّ والتعب . والكادح : الساعي .
ومثل قوله : « فربّ دائب مضيّع ، وربّ كادح خاسر » ، قول الشاعر :

إذا لم يكنْ عونٌ من اللّهِ للْفَتَىفأكثُر ما يجنِي عليهِ اجتهادُهُ
وهو كثير ، والأصل فيه قوله تعالى : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارا حَامِيَةً »۱ ويروى : « فربّ دائب مضِيع » بغير تشديد .

1.سورة الغاشية ۲ ـ ۴ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
438

واستحرار القتل : شدّته ، استحرّ وحَرّ بمعنى . والمفلِت : الهارب .
يقول عليه السلام : إنّ الأُمورَ المستقبلة على قسميْن :
أحدهما : ما تفرّد اللّه تعالى بعلمه ، ولم يطلِعْ عليه أحدا من خلقه ، وهي الأُمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة : « إنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَافِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أرْضٍ تَمُوتُ » .
والقسم الثاني : ما يعلمُه بعضُ البشر بإعلام اللّه تعالى إيّاه ، وهو ما عدا هذه الخمسة ، والإخبار بملحَمة الأتراك من جُمْلة ذلك .
وتضطمّ عليه جوانحي ، تفتعل ، من الضمّ ، وهو الجمع ، أي يجتمع عليه جوانح صدري ، ويروى : « جوارحي » .
وأعلم أنّ هذا الغيب الذي أخبر عليه السلام عنه قد رأيناه نحن عيانا ، ووقع في زماننا ، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق ؛ حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا ، وقفجاق ، وبلاد ما وراء النهر ، وبخراسان وما ولاها من بلاد العجم ، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق اللّه تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله .

129

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلام في ذكر المكاييل والموازينعِبَادَ اللّهِ ، إِنَّكُمْ ـ وَمَا تَأمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنْيَا ـ أَثْوِيَاءُ مُؤجَّلُونَ ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ : أَجَلٌ مَنْقُوصٌ ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ . فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ ، وَرُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ . وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لاَ يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إدباراً ، وَالشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً ، وَالشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاس إِلاَّ طَمَعاً . فَهذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95677
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي