485
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

إِنْ ثَبَتَتِ الْوَطْأَةُ فِي هذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ ، وَإِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ ، وَمَهَبِّ رِيَاحٍ ، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ ، اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفِّقُهَا ، وَعَفَا فِي الأرْض مَخَطُّهَا . وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً ، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءً سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ ، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ . لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي ، وَخُفُوتُ إِطْرَاقِي ، وَسُكُونُ أَطْرَافِي ، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ ، وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ . وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصَدٍ لِلتَّـلاَقِي ! غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي ، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي ، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي ، وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي .

الشّرْحُ :

أطردتُ الرجل ، إذا أمرتَ بإخراجه وطردِه ، وطردتُه إذا نفيتَه وأخرجتَه ؛ فالإطّراد أدَلّ على العزّ والقهر من الطرد ، وكأنه عليه السلام جعل الأيام أشخاصا يأمر بإخراجهم وإبعادهم عنه ، أي ما زِلْتُ أبحث عن كيفيّة قتلي ، وأيّ وقت يكون بعينه ، وفي أيّ أرض يكون ، يوماً يوماً ، فإذا لم أجده في اليوم أطردته واستقبلت غده ؛ فأبحث فيه أيضا ، فأبعده وأطرده ، وأستأنف يوماً آخر ، هكذا حتى وقع المقدور ۱ .
أمّا قوله : « كلّ أمرئ لاق ما يفرّ منه في فراره » ، أي إذا كان مقدوراً ، وإلاّ فقد رأينَا مَنْ يفرّ من الشيء ويسلم ؛ لأ نّه لم يقدّر ، وهذا من قوله تعالى : « وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَةٍ »۲ ،

1.قال الشيخ المفيد ؛ في ( المسائل العكبرية ) : القول بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام يعلم قاتله والوقت الذي يقتل فيه ؛ فقد جاء الخبر متظافرا أ نّه كان يعلم في الجملة أ نّه مقتول ، وجاء أيضا بأنّه يعلم قاتله على التفصيل ؛ فأمّا علمه بوقت قتله فلم يأتِ أثرٌ على التحصيل ، ولو جاء به أثر لم يلزم فيه ما يظنّه المعترضون ؛ إذ كان لا يمتنع أن يعبّده اللّه تعالى بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه بذلك علو الدرجات ما لا يبلغه إلاّ به ، بأنّه يطيعه في ذلك طاعة لو كلّفها سواه لم يردّها ، ولا يكون بذلك ملقيا بيده إلى التهلكة ، ولا معينا على نفسه معونة تستقبح في العقول .

2.سورة النساء ۷۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
484

يطالبون بدم عثمان ؛ فهو عليه السلام قال : كلّ ضلالة فلابدّ لها من علّة اقتضتها ، وكلّ ناكثٍ فلابدّ له من شبهة يستنِد إليها .
وقوله : « لينتزعَنّ هذا نفس هذا » قول صحيح لا ريبَ فيه ؛ لأنّ الرئاسة لا يمكن أنْ يدبّرها اثنان معاً ، فلو صحّ لهما ما أراداه لوثب أحدهما على الآخر فقتله ؛ فإن الملك عقيم ؛ وقد ذكَرَ أربابُ السّيرة أنّ الرجلين اختلفا من قَبْلِ وقوع الحرب ، فإنهما اختلفا في الصلاة ، فأقامت عائشة محمد بن طلحة وعبد اللّه بن الزبير ؛ يصلي هذا يوماً ، وهذا يوماً ، إلى أن تنقضيَ الحرب . ثم إنّ عبد اللّه بن الزبير ادّعى أنّ عثمان نصّ عليه بالخلافة يوم الدار ، واحتجّ في ذلك بأنّه استخلفه على الصلاة ، واحتجّ تارة أُخرى بنصّ صريح زعمه وادّعاه . واختلفا في تولّى القتال ، فطلبه كلّ منهما أولا ، ثم نكَلَ كلٌّ منهما عنه وتفادَى منه .

149

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام قبل موتهأَيُّهَا النَّاسُ ، كُلُّ امْرِئٍ لاَقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ ، والْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْس . وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ . كَمْ أَطْرَدْتُ الأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هذَا الأَمْرِ ، فَأَبَى اللّهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ . هَيْهَاتَ ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ!
أَمَّا وَصِيَّتِي : فَاللّهَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وَمُحَمَّداً صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، فَـلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ . أَقِيمُوا هذَيْن الْعَمُودَيْنِ ، وَأَوْقِدُوا هذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ ، وَخَلاَكُمْ ذَمُّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا . حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ ، وَخُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ . رَبٌّ رَحِيمٌ ، وَدِينٌ قَوِيمٌ ، وَإِمَامٌ عَلِيمٌ .
أَنَا بِالْأَمْس صَاحِبُكُمْ ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ ! غَفَرَ اللّهُ لِي وَلَكُمْ!

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95663
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي