487
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأُمور المفصّلة وحلّ المشكلات الغامضة . وقد روي « حَمَل » على صيغة الماضي ، و « مجهودَه » بالنصب ، و « خَفّفَ » على صيغة الماضي أيضاً ، ويكون الفاعل هو اللّه تعالى المقدّم ذكره ، والرواية الأُولى أكثر وأليق . ثم قال : « ربّ رحيم » أي ربّكم رب رحيم . ودين قويم ، أي مستقيم . وإمام عليم ، يعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران .
ثم قسّم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة ، فقال : « أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عِبْرة لكم ، وغداً مفارقكم » إنما كان عبرةً لهم ؛ لأنهم يروْنه بين أيديهم ملقىً صريعا بعد أن صَرَع الأبطال ، وقتل الأقران . ويقال : دَحَضت قدمُ فلان ، أي زلّت وزَلَقت . ثم شبّه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهابّ الرياح وظلال الغمام ؛ لأنّ ذلك كلّه سريع الانقضاء لاثبات له .
قوله : « اضمحلّ في الجوّ متلفّقُها ، وعَفَا في الأرض مَخَطُّها » ، اضمحلّ ذهب ، والميم زائدة ، ومنه الضّحْل وهو الماء القليل ، واضمحلّ السحاب : تقشّع وذهب ، وفي لغة الكلابيين امضحلّ الشيء بتقديم الميم . ومتلفّقها : مجتمعها ، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو ؛ والتلفيق : الجمع . وعَفَا : دَرَس . ومخطّها : أثرها ؛ كالخطة .
قوله : « وإنما كنتُ جارا جاوركم بَدَنِي أياما » ، في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النّفس ، وأنّ هويّة الإنسان شيء غير هذا البدَن . وقوله : « ستعقَبون مِنّي » أي إنما تجدون عَقيب فقدي جُثّة ؛ يعني بدنا خلاء ، أي لا رُوح فيه ؛ بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوّة وغير ذلك . ثم وَصف تلك الجُثّة فقال : « ساكنة بعد حَرَاك » بالفتح ، أي بعد حَرَكة « وصامتة بعد نطق » . وهذا الكلام أيضا يُشعِر بما قلناه من أمرِ النّفْس ، بل يصرّح بذلك ، ألا تراه قال : « ستعقبون مني جثّة » ، أي تستبدلون بي جثّة صفتها كذا ؛ وتلك الجثّة جثته عليه السلام .
قوله : « ليعظكم هدوّى » ، أي سكوني ، وَخفوت إطراقي ، مثله خَفَت خُفوتاً سكن ، وَخفت خُفاتاً مات فجأة . وإطراقه : إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض ، لضعفه عن رفع جفْنه . وسكون أطرافه : يداه ورجلاه ورأسه عليه السلام . قال : « فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ ، والقول المسموع » ؛ وصدق عليه السلام ! فإنّ خَطْبا أخرس ذلك اللسان ، وَهدّ تلك القُوَى لخطبٌ جليل ، ويجب أن يتّعظ العقلاء به . وما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى مَنْ شاهد


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
486

وقوله : « لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ »۱ ، ومن قوله تعالى : « قلْ إنَّ الموتَ الَّذِي تَفِرّون مِنْهُ فإنهُ مُلاقِيكُمْ »۲ ، وفي القرآن العزيز مثل هذا كثير .
قوله : « والأجل مَسَاق النفس » أي الأمر الذي تساق إليه ، وتنتهي عندهم ، وتقف إذا بلغتْه فلا يبقى له حينئذٍ أكلة في الدنيا . قوله : « والهرب منه موافاتُه » ، هذا كلام خارج مخرج المبالغة في عدم النّجاة ، وكون الفرار غيرَ مغْنٍ ولا عاصم من الموت ، يقول : الهرب بعينه من الموت موافاة للموت ، أي إتيان إليه ، كأنه لم يرتض بأن يقول : الهارب لابدّ أن ينتهيَ إلى الموت ، بل جعل نفس الهرب هو ملاقاة الموت .
قوله : « أبحثها » أي أكشفها ، وأكثر ما يستعمل « بحث » مُعَدّىً بحرف الجر ، وقد عدّاه هاهنا إلى « الأيام » بنفسه وإلى « مكنون الأمر » بحرف الجرّ .
قوله : « فأبى اللّه إلاّ إخفاءه ، هيهات علم مخزون » ! تقديره : هيهات ذلك ! مبتدأ وخبره ، هيهات اسم للفعل ، معناه بعد ، أي علْم هذا الغيب علم مخزون مصون .
قوله : « فاللّهَ لا تشركوا به شيئا » الرواية المشهورة « فاللّهَ » بالنصب ؛ وكذلك « محمداً » بتقدير فعل ؛ لأنَّ الوصية تستدعي الفعل بعدها ، أي وحّدُوا اللّه ، وقد روي بالرفع ؛ وهو جائز على المبتدأ والخبر . قوله : « أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخَلاَكم ذمّ ما لم تشرُدوا » ، كلام داخلٌ في باب الاستعارة ، شبّه الكتاب والسنّة بعمودَيِ الخيْمة ، وبمصباحَيْن يُستضاء بهما . وخَلاَكم ذمٌّ : كلمة جارية مجرى المثل ، معناها : ولا ذمّ عليكم ، فقد أعذرتمُ . وذمّ ، مرفوع بالفاعلية ، معناه : عَدَاكم وسقَط عنكم .
قلت : مراده بقوله : « ما لم تشردوا » ما لم ترجعوا عن ذلك ، فكأنه قال : خلاكم ذمّ إن وحّدتم اللّه واتّبعتم سنة رسوله ، ودمتم على ذلك . قوله : « حمِّل كلّ امرئ مجهوده ، وخُفِّفَ عن الجهلة » ، هذا كلام متّصل بما قبله ؛ لأ نّه لما قال : « ما لم تشرُدُوا » أنبأ عَنْ تكليفهم كلّ ما وردت به السنّة النبوية ، وأن يدوموا عليه ؛ وهذا في الظاهر تكليفُ أُمورٍ شاقة ، فاستدرك بكلامٍ يدلّ على التخفيف ، فقال : إن التكاليف على قَدْرِ المكلّفين ، فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة ، وأرباب الجهل عند المكلفين غير مكلّفين ، إلاّ بحمل التوحيد والعدل ،

1.سورة آل عمران ۱۵۴ .

2.سورة الجمعة ۸ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95626
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي