531
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الشّرْحُ :

جعل الحمد مفتاحا لذكره ؛ لأنّ أوّل الكتاب العزيز : « الْحَمْدُ للّهِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » ؛ والقرآن هو الذكر ، قال سبحانه : « إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »۱ ، وسبباً للمزيد ؛ لأ نّه تعالى قال : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ »۲ ، والحمد هاهنا هو الشكر ، ومعنى جعله الحمدَ دليلاً على عظمته وآلائه أ نّه إذا كان سبباً للمزيد ، فقد دلّ ذلك على عظمة الصانع وآلائه ؛ أمّا دلالته عَلَى عظمته ، فلأنّه دالٌّ عَلَى أنّ قدرته لا تتناهى أبدا ، بل كلّما ازداد الشكر ازدادت النعمة . وأمّا دلالته عَلَى آلائه ، فلأنّه لا جودَ أعظمُ من جود مَنْ يعطي مَنْ يحمَده ، لا حمدا متطوّعا ، بل حمْداً واجباً عليه .
قوله : « يجري بالباقين كجريه بالماضين » ، من هذا أخذ الشعراء وغيرهم ما نظموه في هذا المعنى ، قال بعضهم :

مات مَنْ مات والثريّا الثريّاوالسِّماك السّماك والنَّسْرُ نَسْرُ
ونجوم السّماء تضحك مِنّاكيفَ تَبْقَى مِنْ بعدِنَا ونَمُرّ!
قوله : « لا يعود ما قد ولّى منه » ، كقول الشاعر :

مَا أحْسَن الأيَّام إلاَّ أنَّهَايا صاحبيّ إذا مَضَتْ لم ترجعِ
قوله : « ولا يبقى سرمدا ما فيه » ؛ كلام مطروق المعنى ، قال عديّ :

ليس شيءٌ عَلَى المنون بباقِغير وجه المهيمن الخلاّقِ
قوله : « آخر أفعاله كأوّله » ، يروى : « كأوّلها » ، ومن رواه : « كأوّله » أعاد الضّمير إلى الدهر ، أي آخر أفعال الدهر كأوّل الدهر ، فحذف المضاف . متشابهة أُموره ؛ لأ نّه ـ كما كان من قبل ـ يرفع ويضع، ويغني ويفقر ، ويوجد ويعدم، فكذلك هو الآن أفعاله متشابهة. وروي : « متسابقة » أي شيء منها قبل شيء ، كأنّها خيلٌ تتسابق في مِضْمارٍ . « متظاهرة أعلامه » : أي دَلالاته على سجيّتِه التي عامَل النَّاس بها قديماً وحديثا . متظاهرة : يقوّي بعضها بعضا . وهذا الكلام جارٍ منه عليه السلام عَلَى عادة العرب في ذكر الدّهر ؛ وإنما الفاعل على الحقيقة ربُّ الدهر . والشَّوْل : النُّوق التي خَفّ لبنها وارتفع ضَرْعها ، وأتى عليها من نَتَاجها سبعة أشهر أو

1.سورة الحجر ۹ .

2.سورة إبراهيم ۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
530

سَيِّئَ أَعْمَالِهِ . فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ .
اعْلَمُوا عِبَادَ اللّهِ ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ ، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ ، وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ . أَلاَ وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا ، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى .
عِبَادَ اللّهِ ، اللّهَ اللّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُس عَلَيْكُم ، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ . فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الفَنَاءِ لأَيَّامِ البَقَاءِ . قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ ، وَأُمِرْتُمْ بالظَّعْنِ ، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ؛ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ ، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤمَرُونَ بِالسَّيْرِ .أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ ! وَمَا يَصْنَعُ بِالمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَحِسَابُهُ!
عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ ، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ .
عِبَادَ اللّهِ ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الأعْمَالُ ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ ، وَتَشِيبُ فِيهِ الأطْفَالُ .
اعْلَمُوا ، عِبَادَ اللّهِ ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أنْفُسِكُمْ ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ ، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ . يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ ، وَيَجِيءُ الْغَدُ لاَحِقاً بِهِ ، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِى ءٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْض مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ ، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ . فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ ، وَمَنْزِلِ وَحْشَةٍ ، وَمَفْرَدِ غُرْبَةٍ!
وَكَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ ، وَبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ ، قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمْ الْأَبَاطِيلُ ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ ، وَاسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ ، وَصَدَرَتْ بِكُمْ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا ، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ ، وَاعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95654
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي