539
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

تفخيم شأن ذلك الحمد وتعظيمه والمبالغة في وصفه ، احتذاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «الحمد للّه زنةَ عرشه ، الحمد للّه عددَ خلْقه ، الحمد للّه مل ءَ سمائه وأرضه » ، فقال عليه السلام : حمدا يكون أرضَى الحمد لك » ، أي يكون رضاك له أوفَى وأعظم من رضاك بغيره ، وكذلك القول في « أحبّ » و « أفضل » . قوله : « ويبْلُغ ما أردت » ، أي هو غاية ما تنتهي إليه الإرادة . « لا يحجب عنك » ؛ لأنّ الإخلاص يقارنه ، والرياء منتفٍ عنه . « ولا يُقْصَرُ دونك » ، أي لا يحبَس ، أي لا مانع عن وصوله إليك ، وهذا من باب التوسّع . ومعناه ، أ نّه بريء من الموانع عن إثماره الثواب واقتضائه إياه ، وروي « ولا يقصر » من القصور ، وروي « ولا يقصّر » من التقصير .
ثم أخذ في بيان أنّ العقول قاصرة عن إدراك الباري سبحانه والعلم به ، وأنّا إنّما نعلم منه صفاتٍ إضافية أو سلبية ؛ كالعلم بأنه حيّ ، ومعنى ذلك أ نّه لا يستحيل على ذاته أن يعلم ويقدّر ؛ وأ نّه قيوم بمعنى أنه ذاته لا يجوز عليها العدَم ، أي يقيم الأشياء ويمسكها ؛ وكلّ شيء يقيم الأشياء كلّها ويمسكها ، فليس بمحتاج إلى مَنْ يقيمه ويمسكه ؛ وإلاّ لم يكُنْ مقيماً وممسكا لكلّ شيء ، وكلّ مَنْ ليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه ؛ فذاته لا يجوز عليها العَدَم . وأنَّه تعالى لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ؛ لأنّ هذا من صفات الأجسام . وما لا يجوز عليه العَدَم لا يكون جِسْما ، ولا يوصف بخواصّ الأجسام ولوازمها ، فإنّه لا ينتهي إليه نَظَر ؛ لأنّ انتهاء النظر إليه يستلزم مقابلته ، وهو تعالى منزه عن الجهة ، وإلاّ لم يكن ذاته مستحيلاً عليها العدم . وأنه لا يدركه بَصَر ؛ لأنّ إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليديّة ، كانطباع أشباح المرئيّات في المرآة ، والباري تعالى لا يتمثّل ، ولا يتشبّح ، وإلاّ لم يكن قيوما . وأنه يدرك الأبصار ؛ لأ نّه إمّا عالم لذاته أو لأ نّه حيٌّ لا آفة به . وأنه يحصي الأعمال ؛ لأ نّه عالم لذاته ، فيعلم كلّ شيء حاضرا وماضيا ومستقبلاً . وأ نّه يأخذُ بالنّواصي والأقدام ؛ لأ نّه قادر لذاته ، فهو متمكّن من كلّ مقدور .
ثم خرج إلى فنّ آخر ، فقال : وما الذي نعجب لأجله من قدرتك وعظيم ملكك ، والغائب عنّا من عظمتك أعظم من الحاضر ! وهذا مما تقصر العقول عن فهمه ، وتنتهي دونه ، وتحول سواترُ الغيوب بينها وبينه ، كما قال عليه السلام . ثم ذكر أنّ مَنْ أعمل فكرَه ليعلم كيف أقام سبحانه العرش ، وكيف ذَرأ الخلق ، وكيف علّق السماوات بغير علاقة ولا عمَد ، وكيف مدّ الأرض على الماء ، رجعَ طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا . وهذا كلّه حقّ ، وأنّ مَنْ حاول تقدير ملك اللّه


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
538

وَأَحْصَيْتَ الْأَعْمَالَ ، وَأَخَذْتَ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدَامِ .
وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ ، وَحَالَتْ سَواتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ . فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ ، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ ، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً ، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً ، وَسَمْعُهُ وَالِهَاً ، وَفِكْرُهُ حَائِراً .

الشّرْحُ :

يجوز أن يكون أمْره هاهنا هو الأمر الفعليّ ، لا الأمر القوليّ ، كما يقال : أمْر فلان مستقيم ، وما أمْر كذا ، وقال تعالى : « وَمَا أَمْرُنَا إلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ »۱ ، « وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أقْرَبُ »۲ ، فيكون المعنى أنّ شأنه تعالى ليس إلاّ أحد شيئين وهما « أن يقول » ، « وأن يفعل » ، فعبّر عن « أن يقول » بقوله : « قضاء » ؛ لأنّ القضاء الحكم ، وعبر عن « أن يفعل » بقوله : « وحكمة » ؛ لأنّ أفعاله كلّها تتبَع دواعيَ الحكمة . ويجوز أن يكون « أمره » هو الأمر القولي ؛ وهو المصدر من « أمَر له بكذا أمرا » فيكون المعنى أنّ أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة ؛ وقد جاء القضاء بمعنى الإلزام والإيجاب في القرآن العزيز في قوله : « وَقَضَى رَبُكَ أَلاّ تَعْبدُوا إلاّ إيَّاه »۳ ، أي أوجب وألزم . قوله : « ورضاه أمانٌ ورحمة » ؛ لأنّ مَنْ فاز بدرجة الرضا فقد أمن وحصلت له الرحمة ؛ لأنّ الرضا رحمة وزيادة . قوله : « يقضي بعلم » ، أي يحكم بما يحكم به ؛ لأ نّه عالم بحسن ذلك القضاء أو وجوبه في العدل . « ويعفو بحلْم » ، أي لا يعفو عن عجز وذلّ ، كما يعفو الضعيف عن القويّ ؛ بل هو قادر على الانتقام ولكنّه يحلم .
ثم حمِد اللّه تعالى على الإعطاء والأخذ ، والعافية والبلاء ؛ لأنّ ذلك كلَّه من عند اللّه لمصالح للمكلّف ، يعلمها ومايعلمها المكلّف ، والحمد على المصالح واجب . ثم أخذ في

1.سورة القمر ۵۰ .

2.سورة النحل ۷۷ .

3.سورة الإسراء ۲۳ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 124085
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي