589
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

من الإبل التي يُسِيمُها راعيها . والمرعى الوبيّ : ذو الوَباء والمرض . والمشرب الدّويّ ذو الداء ، وأصل « الوبي » الليّن الوبيء المهموز ؛ ولكنه ليّنه ؛ يقال : أرض وبيئة على « فعيلة » ، ووبئة على « فَعِلة » ؛ ويجوز أو بأتْ فهي موبئة . والأصل في الدويّ « دَوِ » بالتخفيف ؛ ولكنه شدّده للازدواج .
ثم ذكر أن هذه النَّعم الجاهلة التي أوقعت أنفسها في هذا المرتع والمشرب المذمومين كالغنم وغيرها من النّعم المعلوفة . للمُدَى : جمع مُدْية ؛ وهي السِّكين ، لا تعرف ماذا يراد بها ، وتظنّ أن ذلك العلف إحسان إليها على الحقيقة . ومعنى قوله : « تحسب يومها دهرها » ، أيْ تظنّ أنّ ذلك العلف والإطعام كما هو حاصلٌ لها ذلك اليوم ، يكون حاصلاً لها أبدا . و « شبعها أمرَها » ، مثل ذلك ، أي تظن أنه ليس أمرُها وشأنُها إلاّ أن يطْعِمها أربابُها لتشبع وتحسُن وتسمن ؛ ليس يريدون بها غير ذلك .
ثم خرج عليه السلام من هذا الفنّ إلى فنّ آخر ، فأقسم أ نّه لو شاء أن يخبر كلّ واحد منهم من أين خرج ، وكيفية خروجه من منزله ، وأين يلج ، وكيفيّة ولوجه ؛ وجميع شأنه من مطعمه ومشربه ، وما عزم عليه من أفعاله ، وما أكله ، وما ادّخره في بيته ، وغير ذلك من شئونه وأحواله ، لفعل . وهذا كقولِ المسيح عليه السلام : « وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ »۱ . قال : إلاّ أني أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ أيْ أخاف عليكم الغلوَّ في أمري ، وأن تُفَضِّلُوني على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ بل أخاف عليكم أن تدّعوا فيَّ الإلهية ، كما ادّعت النصارى ذلك في المسيح لمّا أخبرهم بالأمور الغائبة .
ثم قال : « ألاّ وإنِّي مُفْضِيه إلى الخاصّة » أي مفضٍ به ومودعٌ إياه خواصَّ أصحابي وثقاتي الذين آمنُ منهم الغلوّ ، وأعلم أنّهم لا يكفرون فيّ بالرسول صلى الله عليه و آله وسلم لعلمهم أنّ ذلك من إعلام نبوّته ، إذ يكون تابع من أتباعه ، وصاحب من أصحابه بلغ إلى هذه المنزلة الجليلة .
ثم أقسم قَسما ثانيا أ نّه ما ينطق إلاّ صادقاً ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عهِد بذلك كلِّه إليه ، وأخبره بمهلِكَ مَنْ يهلِك من الصحابة وغيرهم من الناس ؛ وبنجاةِ مَنْ ينجو ، وبمآلِ هذا الأمر ـ يعني ما يفضي إليه أمر الإسلام وأمر الدولة والخلافة ـ وأ نّه ما ترك شيئا يمرّ على رأسه عليه السلام إلاّ وأخبره به وأسرّه إليه .

1.سورة آل عمران : ۴۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
588

176

الأصْلُ :

۰.من خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ ، وَالتَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ .
مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللّهِ ذَاهِبِينَ ، وَإِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ ؟! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعىً وَبِيٍّ ، وَمَشْرَبٍ دَوِيٍّ ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لاَ تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا ! إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا ، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا . وَاللّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأنِهِ لَفَعَلْتُ ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللّهِصَلّى اللّه عَلَيهِ وَسَلّم . أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ إلى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤمَنُ ذلِكَ مِنْهُ . وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ ، مَا أَنْطِقُ إِلاَّ صَادِقاً ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ ، وَبِمَهْلَكِ مَنْ يَهْلِكُ ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو ، وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ . وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ .
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللّهِ ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ، وَلاَ أنهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا .

الشّرْحُ :

خاطب المكلّفين كافّة ؛ وقال : إنّهم غافلون عَمّا يُراد بهم ومنهم ؛ وليسوا بمغفول عنهم ، بل أعمالهم محفوظة مكتوبة . ثم قال : والتاركون : أي يتركون الواجبات . ثم قابل ذلك بقوله : « والمأخوذ منهم » ، لأنّ الأخذ في مقابلة التّرْك ؛ ومعنى الأخذ منهم انتقاصُ أعمارهم ؛ وانتقاض قواهم ، واستلاب أحبابهم وأموالهم . ثم شبههم بالنّعم التي تتبع نعما أُخرى . سائمة ، أي راعية ؛ وإنّما قال ذلك ؛ لأنّها إذا اتّبعت أمثالها كان أبلغَ في ضرب المثل بجهلها

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95582
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي