609
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ثم قال : « أقرِبْ بقومٍ ! » أي ما أقربهم من الجهل ! كما قال تعالى : « أسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ»۱ ، أي ما أسمعهم وأبصرهم!

182

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام
وقد أَرسل رجلاً من أصحابه ، يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة ، قد همّوا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه عليه السلام ، فلمّا عاد إِليه الرجل قال له : «أأمِنُوا فَقَطَنُوا ، أم جبنوا فَظَعَنُوا» ، فقال الرجل : بل ظَعَنُوا يا أَمير المؤمنين .
فقال عليه السلام :
بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ! أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَصُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهمْ ، لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ . إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ ، وَهُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ ، وَمُتَخَلٍّ عَنْهُمْ . فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهمْ مِنَ الْهُدَى ، وَارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلاَل وَالْعَمَى ، وَصَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ ، وَجِمَاحِهمْ فِي التِّيهِ .

الشّرْحُ :

قد ذكرنا قصّة هؤلاء القوم فيما تقدّم عند شرحنا قصّة مَصْقَلة بن هبيرة الشّيبانيّ .
وقَطَن الرجلُ بالمكان ، يقطُن بالضمّ : أقام به وتوطّنه ؛ فهو قاطن ؛ والجمع قطّان وقاطنة وقطين أيضاً ، مثل غازٍ وغزيّ . وعازب للكلأ البعيد وعزيب . وظَعَن صار الرجل ظَعْنا وظعَناً ؛ وقرئ بهما : « يَوْمَ ظَعْنِكُمْ »۲ ؛ وأظعنه : سيره ، وانتصب « بُعْداً » على المصدر .

1.مريم : ۳۸ .

2.سورة النحل ۸۰ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
608

فإن قلت : كيف قال : إنّ معاوية لم يكن يعطي جندَه ، وأ نّه هو عليه السلام كان يعطيهم ؛ والمشهور أنّ معاوية كان يمدّ أصحابَه بالأموال والرغائب!
قلت : إنّ معاوية لم يكن يعطِي جندَه على وجْهِ المعونة والعطاء ؛ وإنّما كان يعطى رؤساء القَبائل من اليمن وساكني الشام الأموال الجليلة ؛ يستعبدهم بها ، ويدعو أولئك الرؤساء أتباعَهُمْ من العرب فيطيعونهم . وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه كان يقسّم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق ولا يرى لشريف على مشروف فضلاً ؛ فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممّن ينصره ويقوم بأمره .
والتَّرِيكة : بيضة النعام تتركها في مَجْثَمِها ، يقول : أنتم خلفُ الإسلام وبقيّته كالبيْضة التي تتركها النعامة .
فإن قلت : ما معنى قوله : « لا يخرج إليكم من أمرى رضىً فتَرضوْنه ، ولا سخط فتجتمعون عليه »؟
قلت : معناه أنّكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئاً، سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم، بل لابدّ لكم من المخالفة والافتراق عنه . ثم ذكر أنّ أحبّ الأشياء إليه أن يلقى الموت .
قوله : « قد دارستُكم الكتاب »، أي درسته عليكم ، دارستُ الكُتب وتدارستَها وأدرستُها، ودرستها ، بمعنى ، وهي من الألفاظ القرآنية ۱ . وفاتحتُكم الحِجاج ، أي حاكمتكم بالمحاجّة والمجادلة ، وقوله تعالى : « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا »۲ ، أي احكم ، والفتَّاح : الحاكم . وعرفتكم ما أنكرتم : بصّرتكم ما عَمِيَ عنكم . وسَوّغْتُكم ما مجَجْتُم ، يقال : مججْتُ الشّراب من فَمِي ، أي رميت به ، وشيخٌ ماجّ : يمُجُّ ريقه ، ولا يستطيع حبسه من كبره ، وأحمق ماجّ : أي يسيل لعابه ، يقول : ما كانت عقولكُم وأذهانكم تنفر عنه من الأُمور الدينيّة أوضحتُه لكم ، حتى عَرَفتُموه واعتقدتموه وانطوتْ قلوبكم عليه .
ولم يجزم عليه السلام بحصول ذلك لهم ؛ لأ نّه قال : لو كان الأعمى يلحظ ، والنائم يستيقظ ! أي أني قد فعلت معكم ما يقتضي حصولَ الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم ، والمانع المشارُ إليه هو الهوى والعصبية والإصْرَار على اللَّجاج، ومحبّة نصره عقيدة قد سبقت إلى القلب، وَزرَعها التعصّب، ومشقّة مفارقة الأسلاف الَّذين قد انغرس في النفس تعظيمهم ، ومالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظنّ بهم .

1.من قوله تعالى في سورة آل عمران ۷۹ : « كُونُوا رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ » .

2.سورة الأعراف ۸۹ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 97528
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي