63
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الشّرْحُ :

إنما قال عليه السلام : « أول الدّين معرفته » ؛ لأنّ التقليد باطل ، وأوّل الواجبات الدينية المعرفة .
وأميرُ المؤمنين عليه السلام أراد أوّل واجب مقصود بذاته من الدين معرفةُ البارئ سبحانه .
« وكمال معرفته التصديق به » ؛ فلأنّ معرفتَه قد تكون ناقصة ، وقد تكون غير ناقصة ، فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بأنّ للعالَم صانعا غيرَ العالم ؛ وذلك باعتبار أن الممكنَ لابدّ له من مؤثر ، فمن علم هذا فقط عَلِم اللّه تعالى ، ولكن علما ناقصا ، وأما المعرفة التي ليست ناقصة ، فأنْ تعلم أنّ ذلك المؤثّر خارج عن سلسلة الممكنات ، والخارجُ عن كلّ الممكنات ليس بممكن ، وما ليس بممكن فهو واجب الوجود ؛ فمن عَلِم أنّ للعالم مؤثرا واجبَ الوجود فقد عرفه عرفاناً أكملَ من عرفان أنّ للعالم مؤثّرا فقط ؛ وهذا الأمر الزائد هو المكنّى عنه بالتصديق به ؛ لأنّ أخصّ ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .
« وكمال التصديق به توحيدهُ » ؛ فلأنّ مَنْ علم أنّه تعالى واجبُ الوجود مصدّق بالبارئ سبحانه ؛ فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنّه واجبُ الوجود فقط ، والتصديق الذي هو أكمل من ذلك وأتمّ هو العلمُ بتوحيده سبحانه ، باعتبار أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين ؛ فمن علم البارئ سبحانه واحدا ، أي لا واجبَ الوجود إلاّ هو ، يكون أكملَ تصديقا ممّن لم يعلم ذلك .
« وكمال توحيده الإخلاصُ له » ؛ فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نَفْيُ الجسمية والعَرَضية ولوازمهما عنه ؛ فمن عرف وحدانية البارئ ولم يعرف هذه الأُمور كان توحيده ناقصا ، ومن عرف هذه الأُمور بعد العلم بوحدانيته تعالى ؛ فهو المخلص في عرْفانه جلّ اسمه ، ومعرفته تكون أتمّ وأكمل .
« وكمالُ الإخلاص له نَفْيُ الصفات عنه » ۱ ، فهو تصريحٌ بالتوحيد الّذي تذهب إليه المعتزلة ، وهو نفيُ المعاني القديمة التي تُثْبِتها الأشعرية وغيرهم ، « لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصفة » ، فاعرف أنّ الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا وقد لا يكون ، فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده ، وأنه واحد ليس

1.« نفي الصفات عنه » : أي نفي الصفات الخارجة عن الذات وطبيعتها ، لا نفي الصفات التي هي عين الذات وحقيقتها .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
62

فأمّا قوله : « الذي ليس لصفته حد محدود » ، فإنه يعني بصفته هاهنا كُنهَه وحقيقته ، يقول : ليس لكنهه حدّ فيعرف بذلك الحدّ قياسا على الأشياء المحدودة ؛ لأنّه ليس بمركّب ، وكلّ محدُود مركّب . ثم قال : « ولا نعت موجود » ، أي ولا يدرك بالرسم ، كما تُدرَكُ الأشياء برسومها ؛ وهو أن تعرف بلازم من لوازمها ، وصفة من صفاتها . ثم قال : « ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود » ، فيه إشارة إلى الردّ على من قال : إنّا نعلم كنهَ الباري سبحانه لا في هذه الدنيا ، بل في الآخرة ؛ فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون : إنّا نعرف حينئذٍ كُنهَه ؛ فهو عليه السلام ردّ قولهم ، وقال : إنه لاوقتَ أبدا على الإطلاق تُعرَف فيه حقيقته وكنهه ، لا الآن ولا بعد الآن ، وهو الحقّ .
فأمّا قوله : « فطر الخلائق ... » إلى آخر الفصل ؛ فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز ، فقوله : « فطر الخلائق بقدرته » ، من قوله تعالى : « قَالَ مَنْ رَّبُّ السَّموَاتِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا »۱ وقوله : «ونشر الرياح برحمته»، من قوله: « يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ»۲ .
وقوله : « ووتَّد بالصخور ميدان أرضه » ، من قوله : « وَالجِبَالَ أوْتَادا »۳ . والمَيدان : التحرّك والتموّج .

الأصْلُ :

۰.أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بهِ تَوْحِيدُهُ ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاْءِخْلاصُ لَهُ ، وَكَمَالُ الاْءِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ . فَمَنْ وَصَفَ اللّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ . وَمَنْ قَالَ «فِيمَ ؟» فَقَدْ ضَمَّنَهُ ، وَمَنْ قَالَ «عَلاَمَ ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ .

1.سورة الشعراء ۲۴ .

2.سورة الأعراف ۵۷ ، وهي قراءة أهل الحرمين ، وأبي عمرو .

3.سورة النبأ ۷ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 125006
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي