625
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

عليهم بما في تصارِيف الدنيا ؛ من الصحّة والسّقم ، وما أحلّ وما حرّم على طريق الابتلاء . ثم قال : « وما أعدّ اللّه سبحانه للمطيعين منهم والعصاة » ، يجوز أن تكون « ما » معطوفة على « عيوبها » ، فيكون موضعها نصبا ، ويجوز أن يكون موضعها جرّا ، ويكون من تتمّة أقسام ما يُعتَبَر به ، والأوّل أحسن .
ثم قال عليه السلام : إني أحمد اللّه كما استحمد إلى خلقه، استحمد إليهم فعلَ ما يوجب عليهم حمده . ثم قال : إنّه سبحانه جعل لكل شيء من أفعاله قَدْرا ، أي فعله مقدَّرا محدود الغرض ، اقتضى ذلك القدر وتلك الكيفية ، كما قال سبحانه : « وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بمقْدَارٍ»۱ . وجعل لكل شيء مقدّر وقتا ينتهي إليه وينقطع عنده ؛ وهو الأجَل . ولكلّ أجل كتاباً ، أي رُقوما تعرفها الملائكة ، فتعلم انقضاء عمر مَنْ ينقضي عمره ، وعَدَم ما ألطافهُم في معرفة عدمه .

الأصْلُ :

۰.منها في ذكر القرآن :فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ . حُجَّةُ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ . أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ ، وَارْتَهَنَ عَلَيهِ أَنْفُسَهُمْ ؛ أَتَمَّ نُورَهُ ، وَأَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ . فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً ، وَآيَةً مُحْكَمَةً ، تَزْجُرُ عَنْهُ ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم ، وَلَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . وَإِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ ، وَتَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ . قَدْ كَفَاكُمْ مَؤُونَةَ دُنْيَاكُمْ ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ ، وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ .
وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى ، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ . فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ

1.سورة الرعد ۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
624

خَلْقَهُ ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَالاْءِنْس رُسُلَهُ ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا ، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا ، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا ، وَلِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا ، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا ، وَحَـلاَلِهَا وَحَرَامِهَا ، وَمَا أَعَدَّ اللّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ ، وَكَرَامَةٍ وَهَوَانٍ .
أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ، وَلِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلاً ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً .

الشّرْحُ :

المنصَبة ، بالفتح والنَّصَب : التعب ، والماضي نصِب بالكسرة . واستعبدت فلانا : اتّخذته عبدا . والضرّاء : الشدّة . ومعتبر : مصدر بمعنى الاعتبار . ومصاحّها : جمع مصحّة « مفعلة » من الصحّة ، كمضارّ جمع مضرّة . وصفَه سبحانه بأنّه معروف بالأدلّة ؛ لا من طريق الرؤية كما تعرف المرئيّات ، وبأنّه يخلق الأشياء ولا يتعب كما يتعب الواحد منّا فيما يزاوله ويباشر من أفعاله . خَلق الخلائق بقدرته على خَلْقِهم ؛ لا بحركة واعتماد . « وأسبغَ النِّعمة عليهم » : أوسَعها . واستعبد الّذين يُدْعَوْن في الدّنيا أربابا بعزِّه وقهرِه . وساد كلّ عظيم بسَعة جوده ؛ وأسكن الدنيا خلقه ، كما ورد في الكتاب العزيز : « إنّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً »۱ . وبعثَ رسلَه إلى الجنّ والإنس ؛ كما ورد في الكتاب العزيز : « يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَينْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا »۲ .
قال : « ليكشفوا لهم عن غطاء الدنيا » ، أي عن عوراتها وعيوبها المستورة ؛ وليخوّفهم من مضرّتها وغرورها المفضِي إلى عذاب الأبد . وليضربوا لهم أمثالها ، كالأمثالِ الواردة في الكتاب العزيز ، نحو قوله تعالى : « إنَّما مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أنْزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاء فاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ...» الآية ۳ .
قوله : « وليهجُموا عليهم » ؛ هجمتُ على الرّجل : دخلت عليه بَغْتَةً ؛ يقول : ليدخلوا

1.سورة البقرة ۳۰ .

2.سورة الأنعام ۱۳۰ .

3.سورة يونس ۲۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 124223
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي