627
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ثم ذكر عليه السلام أنّ اللّه تعالى قَبَض رسوله صلى الله عليه و آله وسلم ؛ وقد فَرَغ إلى الخلْق بالقرآن من الإكمال والإتمام ، كقوله تعالى : « اليَوْمَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي »۱ ، وإذا كان قد أكمله لم يبق فيه نقص ينتظر إتمامه .
قال : فعظّموا من اللّه ما عظّم من نفسه ؛ لأ نّه سبحانه وصفَ نفسه بالعظمة والجلال في أكثر القرآن ؛ فالواجب علينا أن نعظّمه على حَسَبِ ما عظّم نفسه سبحانه . ثم علّل وجوبَ تعظيمِه ، وحَسَّنَ أمرَه لنا بتعظيمه سبحانه بكونه لم يُخْفِ عَنّا شيئا من أمر ديننا ، وذلك لأنّ الشرعيّات مصالح المكلّفين ، وإذا فعل الحكيم سبحانه بنا ما فيه صلاحُنا ، فقد أحسَنَ إلينا ، ومن جملة صلاحِنا تعريفُنا من الشرعيّات ما فِعله لطفٌ ومفضٍ بنا إلى الثواب ، وهذا أبلغ ما يكون من الإحسان ، والمحسِنُ يجب تعظيمه وشكره .
قال : لم يترك شيئا إلاّ وجعل له نصّا ظاهرا يدلّ عليه ، أو عَلَما يستدَلّ به عليه ، أي إمّا منصوص عليه صريحاً ، أو يمكن أن يستنبَط حكمه من القرآن إمّا بذكره أو بتركه فيبقى على البراءة الأصليّة ، وحكم العقل .
قوله : « فرضاه فيما بقيَ واحد » ، معناه أنّ ما لم ينصّ عليه صريحا ، بل هو في محلّ النّظر ، ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه ، فيحلّه بعضُهم ، ويحرّمه بعضهم ؛ بل رضا اللّه سبحانه أمرٌ واحد ، وكذلك سَخَطه .
قوله : « واعلموا أنه ليس يرضى عنكم ... » ، الكلام إلى منتهاه ، معناه أ نّه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوَى والأحكام ، كما اختلف الأُمم من قبلكم ، فسَخِط اختلافَهم قال سبحانه : « إنَّ الَّذِينَ فَرَّقروا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ»۲ . وكذلك ليس يسخَطُ عليكم بالاتفاق والاجتماع الَّذي رضيَه ممّن كان قبلكم من القرون . ويجوز أن يفسَّر هذا الكلام بأنّه لا يرضى عنكم بما سَخِطه على الّذِين من قبلكم من الاعتقادات الفاسدة في التوحيد والعدل ، ولا يسخط عليكم بما تعتقدونه من الاعتقادات الصحيحة التي رضيَها مِمّن كان قبلكم في التّوحيد والعدل ، فيكون الكلام مصروفا إلى الأُصول لا إلى الفروع .
قال : « وإنما تسيرون في أثر بَيّن » ، أي أنّ الأدِلّة واضحة ، وليس مراده الأمر بالتقليد ،

1.سورة المائدة ۳ .

2.سورة الأنعام ۱۵۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
626

بِعَيْنِهِ ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ .إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ ، وَإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ؛ قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً ، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً ، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً . وَاعْلَمُوا أنـّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ ، فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ؛ ظِلُّهَا عَرْشُهُ ، وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ ، وَزُوَّارُهَا مَلآئِكَتُهُ ، وَرُفَقَاؤهَا رُسُلُهُ .
فَبَادِرُوا الْمَعَادَ ، وَسَابِقُوا الآجَالَ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ ، وَيَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ ، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ . فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ ، عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ ، وَقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِرْتِحَالِ ، وَأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ .

الشّرْحُ :

جعل القرآن آمرا وزاجراً ، لمّا كان خالقه ـ وهو اللّه سبحانه ـ آمرا زاجراً به ، فأسنَد الأمر والزجْر إليه ؛ كما تقول : سيف قاتل ، وإنما القاتل الضارب به ، وجعله صامتاً ناطقاً ؛ لأ نّه ـ من حيث هو حروف وأصوات ـ صامت ، إذ كان العرَض يستحيل أن يكون ناطقاً ؛ لأنّ النطق حركة الأداة بالكلام ، والكلام يستحيل أن يكون ذا أداة ينطَق بالكلام بها ؛ وهو من حيث يتضمّن الإخبار والأمر والنهي والنداء وغير ذلك من أقسام الكلام ، كالناطق ؛ لأنّ الفهم يقع عنده ، وهذا من باب المجاز كما تقول : هذه الربوع الناطقة ، وأخبرتني الديار بعد رحيلهم بكذا . ثم وصفه بأنّه حجّة اللّه على خلْقه ؛ لأ نّه المعجزة الأصليّة .
أخذ سبحانه على الخلائق ميثَاقَه ، وارتهن عليه أنفسهم ، لَمّا كانَ سبحانه قد قرّر في عقول المكلّفين أدلّة التوحيد والعدل ، ومن جملة مسائل العدْل النبوّة ، ويثبت نبوّة محمد صلى الله عليه و آله وسلمعَقْلاً ، كان سبحانه بذلك كالآخذ ميثاقَ المكلّفين بتصديق دعوته ، وقبول القرآن الّذي جاء ، وجعل به نفسهم رَهْنا على الوفاء بذلك ، فمن خالف خَسِرَ نفسَه ، وهلَك هلاك الأبَد . هذا تفسير المحقّقين ، ومن الناس منْ يقول : المراد بذلك قصّة الذريّة قبل خلق آدم عليه السلام ، كما ورد في الأخبار ، وكما فسّر قوم عليه الآية .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95655
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي