649
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ثم زاد المعنى تأكيدا فقال : « قرُب فنأى » ، أي قرب فعلاً فنأى ذاتاً ، أي أفعاله قد تُعلم ؛ ولكنّ ذاته لا تعلم . ثم قال : « وعلا فدنا » ، أي لمّا علا عن أن تحيط به العقول عرفته العقول ، لا أنّها عرفت ذاته ، لكن عرفت أ نّه شيء لا يصحّ أن يعرف ، وذلك خاصّته سبحانه ، فإنّ ماهيّته يستحيل أن تتصوّر للعقل لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف غيره من الممكنات . ثم أكّد المعنى بعبارة أُخرى ، قال : « وظهر فبطَن ، وبطن فعلَن » ، وهذا مثل الأوّل . ودان : غلب وقَهر ، ولم يُدَنْ : لم يقهر ولم يغلب . ثم قال : « لم يذرأ الخلق باحتيال » ، أي لم يخلقْهم بحيلة توصّل بها إلى إيجادهم ، بل أوجدَهُم على حسب عِلمه بالمصلحة خلقاً مخترعاً من غير سبب ولا واسطة . « ولا استعان بهم لكَلاَل »، أي لإعياء ، أي لم يأمر المكلَّفين بالجهاد لحاجته في قهر أعدائه ، وجاحدي نعمته إليهم ؛ وليس بكالٍّ ولا عاجز عن إهلاكهم ، ولكنّ الحكمةَ اقتضتْ ذلك ، قال سبحانه : «وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمُ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ »۱ ، أي لبطل التكليف .
ثم ذكر أنّ التقوى قِوام الطاعات التي تقوم بها ، وزمام العبادات ؛ لأنها تمسِك وتحصِّن ، كزمام الناقة المانع لها من الخبْط . والوثائق : جمع وثيقة ، وهي ما يوثق به . وحقائقها : جمع حقيقة ؛ وهي الراية ، يقال : فلان حامي الحقيقة . قوله : « تَؤُلْ » بالجزم ؛ لأ نّه جواب الأمر ، أي ترجع . والأكنان : جمع كِنّ وهو السّاتر . والدّعة : الراحة . السَّعَة : الجِدَة . والمعاقل : جمع مَعْقِل ، وهو الملجأ . والحِرْز : الحفظ . وتشخص الأبصار : تبقى مفتوحة لا تطرف . والأقطار : الجوانب . والصُّروم : جمع صُرْم وصِرْمة ، وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين . والعِشار : النّوق أتى عليها من يوم أُرسل الفحل فيها عشرة أشهر ، فزال عنها اسم المخاض ، ولا يزال ذلك اسمها حتى تَضَع ، والواحدة عُشَراء ، وهذا من قوله تعالى : « وَإذَ الْعِشارُ عُطِّلَتْ »۲ ، أي تركت مسيّبَة مهملَة لا يلتفت إليها أربابها ، ولا يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم . وتزهق كلّ مهجة : تهلك . وتبكَم كلّ لهجة ، أي تخرس ، رجل أبكم وبكيم ، والماضي بكِمَ بالكسر . والشُّمّ الشوامخ : الجبال العالية . وذُلّها : تدكْدكها ؛ وهي أيضاً الصمّ الرواسخ . فيصير صلدها ـ وهو الصلب الشديد انصلابه ـ سرابا ، وهو ما يتراءى في النهار فيظنّ ماءً . والرَّقراق : الخفيف . ومعهدها : ما جعل منها منزلاً للناس . قاعاً : أرضاً خالية . والسَّمْلق : الصفصف المستوي ، ليس بعضه أرفعَ وبعضه أخفض .

1.سورة البقرة ۲۵۱ .

2.سورة التكوير ۴ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
648

قوله : « فاستفتحوه » ، أي اطلبوا منه الفَتْح عليكم والنَّصْر لكم . واستنجِحُوه : اطلبوا منه النجاح والظَّفَر . واطلبوا إليه : أي اسألوه . واستمنِحوه ، بكسر النون : اطلبوا منه المِنْحَة ، وهي العطيّة . ويروى : « واستميحوه » بالياء ، استمحتُ الرّجُل : طلبت عطاءه ، ومحتُ بالرجل : أعطيته .
ثم ذكر عليه السلام أ نّه لا حِجاب يمنَع عنه ، ولا دونه باب يُغلق ، وأنه بكلّ مكان موجود ، وفي كلّ حين وأوان ، والمراد بوجوده في كلّ مكان إحاطة علمه ؛ وهو معنى قوله تعالى : « مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَة إلاَّ هُوَ رابِعهُم »۱ ، وقوله سبحانه : « وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنمَا كُنتُمْ »۲ .
قوله : « لا يثلِمه العطاء » بالكسر : لا ينقص قدرته . والحِباء : النَّوال . ولا يستنفذه ، أي لا يفنيه . ولا يستقصيه : لا يبلغ الجود أقصى مقدوره وإن عَظُم الجود ؛ لأ نّه قادر على ما لا نهاية له . « ولا يلويه شخص عن شخص » : لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضاً وذهولاً عن شخص آخر ؛ بل هو عالم بالجميع ، لا يشغله شأن عن شأن . لوى الرجل وجهه ، أي أعرض وانحرف ، ومثل هذا أراد بقوله : « ولا يلهيه صوت عن صوت » ، ألهاه كذا ، أي شَغَله . ولا تحجُزه ـ بالضمّ ـ هِبة عن سَلْب ، أي لا تمنعه ، أي ليس كالقادرين بالقدرة مثلنا ؛ فإنّ الواحد منّا يصرفه اهتمامه بعطيّة زيد عن سلب مال عمرو ، حالَما يكون مهتمّا بتلك العطيّة ؛ لأنّ اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الآخر . ومثل هذا قوله : « ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تُولِهه رحمة عن عقاب » ، أي لا تحدث الرحمة لمستحقّها عنده ولَها ، وهو التحيّر والتردّد ، وتصرفه عن عقاب المستحقّ ؛ وذلك لأنّ الواحد منّا إذا رحِمَ إنسانا حدث عنده رقّة ، خصوصاً إذا توالت منه الرحمة لقوم متعدّدين ، فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده ، فلا يطيق مع تلك الحال أنْ ينتقم ، والبارئ تعالى بخلاف ذلك ؛ لأ نّه ليس بذي مزاج سبحانه ولا يجنَّه البطون عن الظهور ، ولا يقطعه الظهور عن البطون ؛ هذه كلّها مصادر ؛ بَطَن بُطُونا أي خَفِيَ ، وظهر ظهوراً ، أي تجلّى ، يقول : لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله وإنْ لم يكن ظاهراً بذاته ، وكذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كُنْهه عن إبصار العقول وإدراكها له . ويقال : اجتننت كذا ، أي سترته ، ومنه الجنين ، والجُنَّة للترس ، وسمِّي الجنُّ جنّا لاستتارهم .

1.سورة المجادلة ۷ .

2.سورة الحديد ۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95601
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي