681
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

أمريْن : إمّا أن يُسلِموه إلى معاوية ، أو يقتلوه ، ولا ناصر له منهم إلاّ ولداه وابن عمّه ونفر قليل لا يبلغون عشرة ، فلما رآهم الأشتر سبّهم وشتمهم ، وقال : ويحكم ! أبعد الظَّفَر والنّصر صبح عليكم الخذلان والفرقة ! يا ضعاف الأحلام ! يا أشْباه النساء ! يا سفهاء العقول ! فشتموه وسبّوه ، وقهروه وقالوا : المصاحف المصاحف ! والرجوع إليها ، لا نرى غير ذلك ! فأجاب أميرُ المؤمنين عليه السلام إلى التحكيم ، دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف ، فلذلك قال : « كنت أميرا فأصبحت مأمورا ؛ وكنت ناهيا فصرت منهيّا » . وقد سبق من شرح حالِ التحكيم وما جرى فيه ما يغني عن إعادته .

202

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام بالبصرة
وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي ؛ وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال :
مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا ، وَأنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ ؛ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا ، فَإِذاً أنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ!
فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد .
قال : وما له؟
قال : لبس العباء وتخلى مِنَ الدنيا .
قال : عَليَّ به . فلما جاء ، قال :
يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ ! لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ ! أَتَرَى اللّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا ؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ مِنْ ذلِكَ!
قال : يا أَمير المؤمنين ، هذا أَنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك!
قالَ : وَيْحَكَ ، إِنِّي لَسْتُ كَأنـْتَ ، إِنَّ اللّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
680

تغَالب .
فأمّا قوله : « كنت أمس أميراً ، فأصبحتُ اليوم مأموراً » ، فقد قدّمنا شرح حالهم من قبل ، وأنّ أهل العراق لمّا رفع عمرو بن العاص ومَنْ معه المصاحف على وجه المكيدة حين أحسّ بالعطب وعلوّ كلمة أهلِ الحقّ ، ألزموا أمير المؤمنين عليه السلام بوضْع أوزار الحرب ، وكفّ الأيدي عن القتال ، وكانوا في ذلك على أقسام :
فمنهم مَنْ دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف ، وغلب على ظنّه أنّ أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة .
ومنهم مَنْ كان قد ملّ الحرب ، وآثر السِّلْم ، فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلّق بها في رفض المحاربة وحبّ العافية أخلد إليها .
ومنهم مَنْ كان يُبغِض عليّاً عليه السلام بباطنه ، ويطيعه بظاهره ، فاجتمع جمهور عسكره عليه ، وطالبوه بالكفّ وترك القتال ، فامتنع امتناع عالم بالمكيدة ، وقال لهم : إنها حيلة وخديعة ، وإنِّي أعرَفُ بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين ، قد صحبتهم وعرفتهم صغيراً وكبيراً ، فعرفت منهم الإعراض عن الدّين ، والركون إلى الدنيا ، فلا تراعُوا برفع المصاحف ، وصمّموا على الحرب ، وقد ملكتموهم ، فلم يبق منهم إلاّ حشاشة ضعيفة ، وذَماء قليل . فأبوا عليه ، وألحوا وأصرّوا على القعود والخذلان وأمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه ، وعليهم الأشتر أن يأمرَهم بالرجوع ، وتهدّدوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية ، فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع وترك الحرب ، فأبى عليه فقال : كيف أرجع وقد لاحت أمارات الظفر ! فقولوا له : « ليمهلني ساعة واحدة » ، ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت . فلمّا عاد إليه الرسول بذلك ، غضبوا ونفروا وشغبوا ، وقالوا : أنفذت إلَى الأشتر سرّا وباطنا ، تأمره بالتصميم ، وتنهاه عن الكفّ ، وإن لم تعده الساعة ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا عثمان ، فرجعت الرّسل إلى الأشتر فقالوا له : أتحبّ أن تظفر بمكانك وأمير المؤمنين قد سلّت عليه خمسون ألف سيف ، فقال : ما الخبر ؟ قال : إنّ الجيش بأسره قد أُحدِق به ، وهو قاعد بينهم على الأرض ، تحته نِطَع ، وهو مُطرِق ، والبارقة تلمع على رأسه ، يقولون : لئن لم تُعِد الأشتر قتلناك ! قال : ويحكم ! فما سبب ذلك ؟ قالوا : رَفْع المصاحف ، قال : واللّه لقد ظننت حين رأيتها رُفعت أنّها ستوقع فرقةً وفتنة .
ثم كرّ راجعا على عَقِبيه ، فوجد أمير المؤمنين عليه السلام تحت الخطر ، قد ردّده أصحابه بين

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95549
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي