85
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

« وانتقل إلى منتَقَله » ، فيه مضاف محذوف ، تقديره : « إلى موضع منتقله » ، والمنتَقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال . فقد رجع الأمر إلى نصابه ، وإلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضعُ الذي يجب أن يكون انتقالُه إليه .
فإن قيل : ما معنى قوله عليه السلام : « لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا » .
قيل : لا شبهةَ أن المنعم أعلى وأشرفُ من المنعَم عليه ، ولا ريب أنّ محمداً صلى الله عليه و آله وأهله الأدنيْن من بني هاشم ، لا سيما عليّ عليه السلام ، أنعَموا على الخلْق كافة بنعمة لا يقدّر قدرها ، وهي الدعاء إلى الإسلام والهداية إليه ، فمحمد صلى الله عليه و آله وإن كان هَدَى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده ، ونصره اللّه تعالى له بملائكته وتأييده ، وهو السيّد المتبوع ، والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة ، إلاّ أنّ لعليّ عليه السلام من الهداية أيضا ـ وإن كان ثانيا لأوّل ، ومصلِّيا على إثر سابق ـ ما لا يُجحد ، ولو لم يكن إلاّ جهادُه بالسيف أولاً وثانيا ، وما كان بين الجهاديْن من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصوّرة ، لكفى في وجوب حَقّه ، وسبوغ نعمته عليه السلام .
فإن قيل : لا ريب في أنّ كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه ، فأيّ نعمة له عليهم ؟ قيل : نعمتان . الأُولى منهما : الجهاد عنهم وهم قاعدون ، فإنّ من أنصفَ علم أنّه لو لا سيف علي عليه السلام لاصطلم المشركون من أشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمتَ آثاره في بدر ، وأحد ، والخندق ، وخَيْبر ، وحُنَين ؛ وأنّ الشرك فيها فَغَرفاه ، فلو لا أن سدّه بسيفه لالتْهَم المسلمين كافة ، والثانية : علومه التي لولاها لحُكِم بغير الصواب في كثير من الأحكام ، وقد اعترف عمر له بذلك ، والخبر مشهور : « لولا علي لهلك عمر » .
ويمكن أن يخرّج كلامه على وجه آخر ؛ وذلك أنّ العرب تفضِّل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل ، وتفضّل الأدنى منه نسباً ، فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة ... فكذلك لما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رئيسَ الكلّ ، والمنعِمَ على الكلّ ، جاز لواحد من بني هاشم ؛ لاسيما مثل عليّ عليه السلام أن يقول هذه الكلمات .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
84

ثم ذكر خصائص حق الولاية ، والولاية : الإمْرة ؛ فأمّا الإمامية فيقولون : أراد نصّ النبي صلى الله عليه و آله عليه وعلى أولاده . ونحن نقول : لهم خصائص حق ولاية الرسول صلى الله عليه و آله على الخلق . ثم قال عليه السلام : « وفيهم الوصية والوراثة » .
أمّا الوصية فلا ريبَ عندنا أنّ عليا عليه السلام كان وصيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإنْ خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد ، ولسنا نعني بالوصية النصَّ والخلافة ، ولكن أُموراً أُخرى لعلّها ـ إذا لُمِحت ـ أشرفُ وأجلّ .
وأمّا الوراثة فالإمامية يحمِلونها على ميراث المال ، والخلافة ، ونحن نحملها على وراثة العلم .
ثم ذكر عليه السلام أنّ الحق رجع الآن إلى أهله ؛ وهذا يقتضي أن يكونَ فيما قبل في غير أهله ، ونحن نتأوّل ذلك على غير ما تذكره الإماميّة ، ونقول : إنّه عليه السلام كان أوْلى بالأمر وأحقّ ، لا على وجه النصّ ، بل على وجه الأفضليّة ، فإنه أفضلُ البشر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأحقُّ بالخلافة من جميع المسلمين ؛ لكنه ترك حقَّه لما علمه من المصلحة ، وما تفرّس فيه هو والمسلمون من اضطراب الإسلام ، وانتشار الكلمة ، لحسد العرب له ، وضغْنهم عليه . وجائز لمن كان أوْلى بشيء فتركه ثم استرجعه أن يقول : « قد رجع الأمر إلى أهله » ۱ .

1.وهذا تصريح ونصّ بمذهب أهل البيت عليهم السلام : أنّ الأمر ـ الخلافة ـ كان خارجا عن أهله ، ولا يقدح فيه عدم استقامة الرعية وإطاعتها مادام النص صريحاً وواضحاً . وهنا تخبط ابن أبي الحديد في شرحه لكلام الإمام عليه السلام ، فقد اعترف بالوصيّة لعلي عليه السلام بالخلافة ، ثم عدل عنها إلى الوصيّة بأُمور هي أجل وأشرف من الخلافة ، وليته بيّن لنا ما هي تلك الأُمور التي هي أجلّ من الخلافة والإمامة . وإن كان عليه السلام وصيّا في الأجل والأشرف ، فما باله لا يكون وصيّا في الخلافة أيضا ، التي هي إحياء للحقّ وإماتة للباطل وإعزاز للمؤمنين ، وخذلان للمنافقين ، وبها تسمو معالم الدين ، وتنكس رايات البدع والضلال ؟ والإمام ، أمين اللّه في خلقه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى اللّه ، والذابّ عن حريم اللّه . فهل يوجد شيء أجلّ وأسمى من الخلافة ؟ فليظهره لنا حتى نعرفه !! ثم لماذا يتأوّل هذا الشارح كلام الإمام عليه السلام في الوراثة ؟ ومتى جاز العدول عن الظاهر إلى التأويل بعد ثبوت حجية الظواهر ؟ فإن قلت : سيصطدم مع ثبوت بطلان خلافة من تقدّمه . قلنا : وهذا هو نفس المتنازع عليه في صحته وبطلانه ، فكيف يصلح العدول عن ظاهر الكلام لأجله ؟ ثم يدّعي (الشارح) أنّ الإمام عليه السلام ترك حقه . ونحن نتسائل عن حجية ما يدعيه ، وكيف يترك الإمام عليه السلام حقه بعد ثبوته ؟ فمتى فسح له المجال في المطالبة حتى يقال عنه أنه تركه ؟ وهذه من جملة شطحات الشارح وتؤلاته التي أراد بها إصلاحاً لم يقم له ، ولا شك أن داعيه إلى ذلك هو تعصّبه ، وتحامله على مذهب الحق ومتابعة مذهب أصحابه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 95620
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي