161
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الرّوح والدم» ، هذه كلمةُ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « إنّ الشيطانَ ليَجري من ابن آدمَ مَجرَى الدّم».
ثم خرج عليه السلام إلى أمر آخَر ، فقال لمعاوية : «ومتى كنتمْ ساسَةَ الرعيّة ، ووُلاة أمرِ الأُمّة ؟!» ، ينبغي أن يُحمَل هذا الكلامُ على نفي كونِهم سادة وولاة في الإسلام ، وإلاّ ففي الجاهليّة لا يُنكَر رياسة بني عبدِ شَمْس . ولست أقولُ برياستهم على بني هاشم ؛ وأيضا فإنّ في لفظة أمير المؤمنين عليه السلام ما يُشعِر بما قلناه ، وهو قوله : «ووُلاةُ أمرِ الأُمّة» ؛ فإنّ الأُمّة في العرب هم المسلمون ، أمّة محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . «بغيرِ قدمٍ سابق» ، يقال : لفلانٍ قدمُ صِدْق ، أي سابقة وأثرَةٌ حَسَنة . «ولا شرف باسق» ، أي عالٍ .
وتَمادَى : تَفاعَل ، من المدى ، وهو الغاية ، أي لم يَقِف بل مَضَى قُدُماً . والغِرَّة : الغَفْلة . والأُمْنيّة : طمعُ النّفس . ومختلف السّريرة والعلانِيَة : منافق .
قوله عليه السلام : «فدَعِ الناسَ جانباً» ، منصوب على الظَّرْف . والمرين على قلبه : المغلوبُ عليه ، من قولِه تعالى : «كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» 1 . وقيل : الرَّيْن : الذنب على القريب . وإنّما قال أميرُ المؤمنين عليه السلام لمعاوية هذه الكَلمَة ؛ لأنّ معاوية قالها في رسالةٍ كتبَها ، ووقفتُ عليها من كتاب أبي العبّاس يعقوب بن أبي أحمد الصَّيْمَريّ الذي جَمعَه في كلام عليٍّ عليه السلام وخطبه ، وأوّلها :
أمّا بعد ، فإنَّك المطبوعُ عَلَى قلبِك ، المغطَّى على بَصرِك ؛ الشرّ من شيمتك ، والعُتوّ من خَليقتك ، فشمِّر للحرب ، واصبرْ للضَّرب ، فواللّه ليرجعنّ الأمرُ إلى ما علمت ، والعاقبة للمتّقين . هيهاتَ هيهات ! أخطأك ما تمنّى ، وهَوَى قلبك فيما هَوَى ، فاربَعْ عَلَى ظَلْعِك ، وقِسْ شبْرَك بِفترِك ، تَعلم أين حالُك من حالِ من يَزِن الجبالَ حِلمُه ، ويَفصِل بين أهل الشّكّ عِلمُه ؛ والسلام .
فكتب إليه أميرُ المؤمنين عليه السلام : « أمّا بعد ، يابن صَخْر ، يابن اللَّعين ؛ يَزِن الجبالَ فيما زعمتَ حِلمُك ، ويَفصِل بين أهلِ الشّك عِلمُك ؛ وأنتَ الجاهلُ القليلُ الفِقْه ، المتفاوتُ العقل ، الشاردُ عن الدين . وقلتَ : (فشمِّر للحرب ، واصبر) ، فإن كنتَ صادقاً فيما تَزعُم ، ويُعينُك عليه ابن النّابغة فدَعِ الناسَ جانباً ، وأَعفِ الفَريقين من القِتال ، وابرُزْ إليَّ لتَعلَم أيّنا المرينُ عَلَى قلبه ، المغطَّى على بصره ، فأنا أبو الحَسَن

1.سورة المطففين ۱۴ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
160

الْأُمْنِيَّةِ ، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ .
وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ ، فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ ، وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ ، وَالْمُغَطَّى عَلَى بصَرِهِ ! فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأخيكَ وَخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ ، وَذلكَ السَّيْفُ مَعِي ، وَبِذلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي ؛ مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً ، وَلاَ اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً . وَإِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ ، وَدَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ .
وَزَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثمانَ ! وَلَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثمانَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً ، فَكَأَنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ الْجِمَالِ بِالْأَثْقَالِ ، وَكَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِـعِ ، وَالْقَضَاءِ الْوَاقِـعِ ، وَمَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ ، إِلَى كِتَابِ اللّهِ ، وَهِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَهٌ ، أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ .

الشّرْحُ:

الجلابيب : جمعُ جلْباب ، وهي المِلْحفة في الأصل ؛ واستُعير لغيرها من الثّياب ، وتجلبَب الرجلُ جلببةً ، ولم تُدغم لأنّها ملحقة بـ «دَحْرَجة» .
قوله : «وتبهّجتْ بزينتها» : صارت ذاتَ بهجة ، أي زينة وحُسْن ، وقد بَهُج الرجلُ بالضم . ويُوشِك : يسرع . ويقفك واقف ، يعني الموتَ ؛ ويُروَى : «ولا ينجيك مِجَنّ» ، وهو التُّرْس ، والرواية الأُولى أصحّ . قوله : «فاقعَسْ عن هذا الأمر» ، أي تأخّر عنه ، والماضي قَعَس بالفتح ، ومثلهُ تقَاعَسَ واقعَنْسَسَ . وأهْبة الحساب : عُدّته ، وتأهّب : استعدّ ، وجمع الأهْبة أُهَب . وشمِّر لما قد نزل بك ، أي جِدَّ واجتهد وخِفَّ ، ومنه رجل شَمَّرِيّ بفتح الشين ، وتُكسر . والغُواةُ : جمع غاوٍ ، وهو الضالّ . «وإلاّ تفعل» يقول : وإن كنت لا تفعل ما قد أمرتُك ووعظتُك به فإنّي أُعرِّفك من نفسك ما أغفلتَ معرفته . إنّك مترَف ، والمترفُ الّذي قد أترفَته النِّعمة ، أي أطغته . «قد أخذ الشيطان منك مأخذه» ؛ ويُروَى «مآخذه» بالجمع ، أي تناوَل الشيطانُ منك لُبَّك وعقلك ، ومأخذه مصدر ، أي تناولك الشيطان تناولَه المعروف ، وحذف مفعول «أخذ» لدلالة الكلام عليه ، ولأنّ اللفظةَ تَجرِي مَجرَى المَثَل . «وجَرَى منك مجرَى

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120986
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي