17
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

وقال القشيريّ في الرّسالة لمّا ذكر الحال والأُمور الواردة على العارفين ، قال : هي بروق تلمع ثم تخمد ، وأنوار تبدو ثم تخفى ، ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها .
فهو كما تراه يذكر البروق اللامعة حَسْبما ذكره الحكيم ، وكلاهما يتّبع ألفاظ أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّه حكيم الحكماء وعارف العارفين ، ومعلّم الصوفيّة ، ولولا أخلاقه وكلامه وتعليمُه للناس هذا الفن تارةً بقوله ، وتارة بفعله ، لما اهتدى أحد من هذه الطائفة ، ولا عِلم كيف يُورد ، ولا كيف يصدِر .
ثم قال عليه السلام : «وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة» ، أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم إلى مقام فوقه ، حتّى وصل ، وتلك المقامات معروفة عند أهلها ، ومَنْ له أنس بها .
ثم قال : «وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمين والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه» ، أي كانت الراحة الكليّة والسعادة الأبديّة مستثمرة من ذلك التعب الذي تحمّله لما استعمل قلبه ، وراض جوارحه ونفسه ، حتى وصل ، كما قيل :

عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القومُ السُّرَىوَتَنْجَلِي عَنَّا غَيَابَاتُ الْكَرَى

215

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلام يحث فيه أصحابه على الجهادوَاللّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ ، وَمُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ ، وَمُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَمْدُودٍ ، لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ ، فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ ، وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ ، لاَتَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَلِيمَةٌ . مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ ، وَأَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ!

الشّرْحُ:

مستأديكم شكره ، أي طالبٌ منكم أداء ذلك والقيام به ، استأديت دَيْني عند فلان ، أي طلبته . وقوله : ومورّثكم أمره» ، أي سيرجع أمر الدولة إليْكم ، ويزول أمر بني أُميّة . ثم شبّه


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
16

ووُقِص الرّجل ، إذا اندقّت عنُقه ، فهو موقوص ، ووَقصتُ عنقَ الرّجل أقِصُها وَقْصا ، أي كسرتها ، ولا يجوز وقصت العنق نفسها .
والضمير في قوله عليه السلام : «لقد أتلعوا» يرجع إلى قريش ، أي راموا الخلافة فقتِلُوا دونها .

214

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلامقَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ ، حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ ، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ ، وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ ، وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ ، وَتَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلاَمَةِ ، وَدَارِ الاْءِقَامَةِ ، وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ ، وَأَرْضَى رَبَّهُ .

الشّرْحُ:

يصف العارفَ ، يقول : قد أحيا قلبه بمعرفة الحقّ سبحانه ، وأمات نفسه بالمجاهدة ورياضة القوّة البدنية ببالجوع والعطش ، والسهر ، والصّبْر عَلَى مشاقّ السفر ، والسياحة . « حتى دقّ جليلُه» ، أي حتى نَحَل بدنُه الكثيف . «ولطف غليظُه» ، تلطفت أخلاقه وصفتْ نفسه ، فإن كَدر النفس في الأكثر إنّما يكون من كَدَر الجسد ، والبطنة ـ كما قيل ـ تذهب الفطنة .
واعلم أن قوله عليه السلام : «وبرق له لامعٌ كثير البرق» ، هو حقيقة مذهبِ الحكماء ، وحقيقة قول الصوفيّة أصحاب الطريقة والحقيقة ؛ وقد صرّح به الرئيس أبو عليّ ابن سينا في كتاب «الإشارات» ، فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان : ثم إنّه إذا بلغت به الإرادة والرياضة حدّا ما عَنَّتْ له خُلْسات من اطّلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروقُ تُومِض إليه ثم تخمَد
عنه ، وهي التي تسمّى عندهم أوقاتا ، وكلّ وقتٍ يكتنفه وجْدٌ إليه ، ووجد عليه ...

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120923
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي