النَّاس خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَبُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللّهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالسَّائِلُونَ وَالْمَدْفُوعُونَ ، وَالْغَارِمُونَ وَابْنُ السَّبِيلِ!
وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ ، وَرَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ ، وَلَمْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ وَدِينَهُ عَنْهَا ، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَالْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ فِي الاْخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى ؛ وَإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ ، وَأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ ، وَالسَّلاَم .
الشّرْحُ:
حيث لا شهيد ولا وكيلَ دونَه ، يعني يومَ القيامة . قوله : «ألاّ يعمل بشيء من طاعة اللّه فيما ظهر» ، أي لا يُنافق فيَعمَل الطاعة في الظاهر ، والمعصية في الباطن . ثم ذكر أن الذين يتجنّبون النِّفاق والرِّياء هم الُمخلِصون .
وألاّ يجْبَهَهم : لا يواجِههُم بما يَكرهونه ، وأصل الجَبْهِ لقاءُ الجَبْهة أو ضَرْبُها ، فلمّا كان المواجِه غيرَه بالكلام القبيح كالضّارب جَبهتَه به سُمِّي بذلك جَبْهاً . «ولا يعضههم» ، أي لا يرْمِيهم بالبُهْتان والكَذِب ، وهي العَضِيهة ، وعَضِهتُ فلانا عَضْهاً ، وقد عَضِهتَ يا فلان ، أي جئتَ بالبهتان . «ولا يرغب عنهم تفضّلاً» ، يقول : لا يحقِرهم ادّعاءً لفضله عليهم ، وتمييزه عنهم بالولاية والإمرة ؛ يقال : فلان يرغَب عن القوم ، أي يأنف من الانتماء إليهم ، أو من المخالطة لهم .
ثم قال : إنّ أربابَ الأموال الّذين تجب الصدقةُ عليهم في أموالهم إخوانُك في الدِّين ، وأعوانُك على استخراج الحقوق ؛ لأنَّ الحق إنما يمكن العامل استيفاؤه بمعاونة ربِّ المال واعترافه به ، ودفعه إليه ، فإذا كانوا بهذه الصِّفة لم يجُزْ لك عَضْهُهم وجَبْهُهم وادّعاءُ الفضل عليهم . ثم ذكر أنّ لهذا العامل نصيبا مفروضا من الصدقة ، وذلك بنصّ الكتاب العزيز ، فكما نوفِّيك نحن حقّكَ يجب عليك أن توفِّيَ شركاءَك حقوقَهم ، وهم الفقراءُ والمساكين والغارمون وسائرُ الأصناف المذكورة في القرآن .
وانتصب «أهلَ مَسْكنة» ؛ لأنّه صفة «شركاء» ، وفي التّحقيق أنَّ «شركاء» صفةٌ أيضا موصوفُها محذوف ، فيكون صفةً بعد صفة .
وقال أيضا : بؤسى ، أي عذابا وشدَّة ، فظنَّه منوََّّنا وليس كذلك ، بل هو بُؤْسَى على وزن «فُعْلَى» كفُضْلَى ونُعمَى ، وهي لفظة مؤنَّثة ؛ يقال : بؤسى لفلان ، قال الشاعر :
أرى الحلم بؤْسى للفتى في حياتهِولا عيش إلاّ ما حَبَاكَ به الجهلُ
والسائلون هاهنا هم الرّقاب المذكورون في الآية ، وهم المكاتبون يتعذّر عليهم أداءُ مالِ الكتابة ، فيسألون الناسَ ليتخلّصوا من ربْقةِ الرِّق . وقيل : هم الأسارَى يطْلبون فكاكَ أنفسهم ، وقيل : بل المراد بالرّقاب في الآية الرّقيق ، يسأل أن يبتاعه الأغنياءُ فيُعتِقوه . والمدفوعون هاهنا هم الذين عناهم اللّهُ تعالى في الآية بقوله : «وفي سبيل اللّه »۱ ، وهم فقراء الغُزاة ، سمّـاهم مدفوعين لفقرِهمْ . والمدفوع والمدفَّع : الفَقير ؛ لأنّ كل أحد يكرَهه ويَدفعه عن نفسه . وقيل : هم الحجيج المنقطَع بهم ، سمّـاهم مدفوعين ؛ لأنهم دُفِعوا عن إتمام حجّهم ، أو دُفِعوا عن العَوْد إلى أهلهم .
قوله فقد أحلّ بنفسه الذلّ والخِزي ، أي جعل نفسَه مَحلاّ لهما ، ويُروَى : «فقد أخلّ بنفسه» بالخاء المعجمة ، ولم يذكر الذلّ والخِزْي أي جعل نفسَه مخلاًّ ، ومعناه جعل نفسه فقيراً ، يقال : خلّ الرجل : إذا افتقر ، وأخَلَّ به غيرُه وبغيره أي جَعَلَ غيرَه فقيراً ، ورُوِي «أحلّ» بنفسه بالحاء المهملة ، ولم يذكر «الذلّ والخِزي » ، ومعنى «أحلّ بنفسه» أباحَ دمَه ، والرواية الأُولى أصحّ ؛ لأنّه قال بعدها : «وهو في الآخرة أذلُّ وأخزَى» .
وخيانة الأُمّة : مصدرٌ مُضاف إلى المفْعول به ؛ لأنّ الساعيَ إذا خان فقد خان الأُمّة كلَّها ؛ وكذلك غِشّ الأئمة ، مصدرٌ مُضاف إلى المفعول أيضا ؛ لأنّ الساعيَ إذا غَشّ في الصدقة فقد غَشّ الإمامَ .