19
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

216

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلام قاله بعد تلاوته«أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»۱
يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ ! وَزَوْراً مَا أَغْفَلَهُ ! وَخطَراً مَا أَفْظَعَهُ ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ ، وَتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ . أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ! أَمْ بَعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ!

الشّرْحُ:

قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين ، فقال قوم : المعنى أنّكم قطعتم أيّام عمركم في التكاثُر بالأموال والأولاد ، حتى أتاكم الموت ، فكنَى عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر . وقال قوم : بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم ، وتعدّى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات ، فقالوا : منّا فلان وفلان ـ لقوم كانوا وانقرضوا . وهذا هُو التّفسير الذي يدلّ عليه كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : «يا له مراما !» ، منصوب على التمييز . ما أبعده ! أي لا فخر في ذلك ، وطلب الفخر من هذا الباب بعيد ؛ وإنّما الفخر بتقوى اللّه وطاعته . وزورا ما أغفله ! إشارة إلى القوم الذين افتخروا ؛ جعلهم بتذكّر الأموات السالفين كالزائرين لقبورهم . والزوْر : اسم للواحد والجمع ، كالخَصْم والضَّيْف . قال : ما أغفلهم عمّا يراد منهم ! لأنهم تركوا العبادة والطاعة ، وصرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى . ثم قال : «وخطرا ما أفظعه !» إشارة إلى الموت : ما أشدّه ! فَظُع الشيء بالضمّ ، فهو فظيع ، أي شديد شنيع مجاوز للمقدار .
قوله : «لقد استخْلَوْا منهم أي مدّكر» ، أراد بـ «استخلَوْا» ذكر منْ خلا من آبائهم ، أي مَنْ
مضى ، يقال : هذا الأمر من الأُمور الخالية ، وهذا القرن من القرون الخالية ، أي الماضية . واستخلى فلان في حديثهِ ، أي حدّث عن أُمور خالية ، والمعنى أنّه استعظم ما يوجبه حديثُهم عمّا خلا وعمّن خلا من أسلافهم وآثار أسلافهم من التذكير ، فقال : أيّ مدّكر وواعظ في ذلك ! وروي أيّ مذكَر بمعنى المصدر ، كالمعتقد بمعنى الاعتقاد ، والمعتبر بمعنى

1.سورة التكاثر ۱ و ۲ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
18

الآجال الّتي ضُرِبَتْ للمكلّفين ليقوموا فيها بالواجبات ، ويتسابقوا فيها إلى الخيرات ، بالمضْمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق .
ثم قال : «فشدّوا عُقَد المآزر» ، أي شمّروا عن ساق الاجتهاد ، ويقال لمن يوصَى بالجدّ والتشمير : اشدد عُقْدة إزارك ؛ لأنّه إذا شدّها كان أبعَد عن العثار ، وأسرع للمشي . « واطووا فُضُول الخواصر» ، نهى عن كثرة الأكل ؛ لأنّ الكثير الأكل لا يطوي فضول خواصره لامتلائها ، والقليل الأكل يأكل في بعضها ويطوي بعضها .
ثم أتى عليه السلام بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها ، وإن كان قد سبق بمعناها ، وهي قوله : «لا تجتمع عزيمة ووليمة » . وقوله : «ما أنقض النوم لعزائم اليوم» ! وقوله : «وأمْحَى الظلم لتذاكير الهمم»!
فمما جاء من ذلك ، قول رجل لولده :

ما للمطيعِ هواهُمن الملامِ ملاذُ
فاختر لنفسك هَذَامَجْدٌ ، وهذا التِذَاذُ
ومثل قوله : «ما أنقَضَ النّوم لعزائم اليوم» قولُ الشاعر :

فَتىً لا ينامُ على عزمِهومَن صَمَّمَ العزم لم يرقدِ
وقوله : «وأمحى الظّلم لتذاكير الهمم» ، أي الظُّلَم التي ينام فيها ، لا كلّ الظلم ، ألا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة بل كان عنده من شدّة العزم وقوة التصميم ما لا ينام معه ، فإنّ الظلمة لا تمحو تذاكير هممه . والتذاكير : جمع تَذْكار .
والمثلان الأوّلان أحسن من الثالث ، وكأن الثالث من تتمة الثاني .
وقد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى ، وجاء في القرآن العزيز : «أَمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلاَ إنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ»۱ .
وهذا مثل قوله : «لا تجتمع عزيمة ووليمة» ، أي لا يجتمع لكم دخول الجنة والدّعة ، والقعود عن مشقّة الحرب .

1.سورة البقرة ۲۱۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 123357
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي