257
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالمحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ، وَلاَتَ حِينَ مَنَاص ۱ .

الشّرْحُ:

أشركتك في أمانتي : جعلتك شريكا فيما قمتُ فيه من الأمر ، وائتمنني اللّه عليه من سياسة الأُمّة ، وسمّى الخلافة أمانةً كما سمّى اللّه تعالى التكليف أمانةً في قوله : «إنّا عَرَضْنا الأَمَانَةَ»۲ . فأمّا قوله : وأداء الأمانة إليّ فأمرٌ آخر ، ومراده بالأمانة الثانية ما يتعارفه الناس من قولهم : فلان ذو أمانة ، أي لا يخون فيما أُسند إليه . وكلِب الزمان : اشتدّ ؛ وكذلك كلِب البردُ . وحَرِب العدوّ : استأسد . وخزيتْ أمانة الناس : ذلّت وهانت . وشَغَرت الأُمّة : خلت من الخير ، وشَغَر البلد : خلا من الناس . وقلبتُ له ظهر المجنّ : إذا كنت معه فصرت عليه ؛ وأصل ذلك أنّ الجيش إذا لقوا العدوّ وكانت ظهور مجانّهم إلى وجه العدوّ ، وبطون مجانّهم إلى وجه عسكرهم ، فإذا فارقوا رئيسهم وصاروا مع العدوّ كان وضع مجانّهم بدلاً من الوضع الذي كان من قبل ، وذلك أنّ ظهور التّرسة لا يمكن أن تكون إلاّ في وجوه الأعداء ؛ لأنها مَرمى سهامهم . وأمكنتك الشدة ، أي الحملة .
قوله : «أسرعت الكرّة» ، لا يجوز أن يقال : الكرّة إلاّ بعد فرّة ، فكأنه لما كان مقلعا في ابتداء الحال عن التعرّض لأموالهم ، كان كالفارّ عنها ، فلذلك قال : أسرعت الكرّة . والذئب الأزلّ : الخفيف الوَرِكين ، وذلك أشدّ لعدوه ، وأسرَع لوثبته ، وإن اتفق أن تكون شاةٌ من المِعزَى كسيرة ودامية أيضا ، كان الذئب على اختطافها أقدر . ونقاش الحساب : مناقشته . قوله : «فضحّ رويداً» ، كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون ، وأصلها الرّجل يطعم إبله ضحى ، ويسيّرها مسرعا ليسير ، فلا يشبعها ، فيقال له : ضَحِّ رويدا .
وقد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب .
فقال الأكثرون : إنه عبد اللّه بنُ العباس رحمه الله ، وروَوْا في ذلك روايات ، واستدلُّوا عليه بألفاظ

1.الشعار : الثوب الملتصق بالجسم . بطانتي : خاصتي . المؤازرة : المناصرة . كَلِبَ الزمان : اشتدّ . فتكتْ : كذبت . آسيت : ساعدت . غرتهم : غفلتهم . حدرت : أسرعت . تسيغ شرابا : تبلعه . وأفاء المال عليه : جعله غنيمة له . الهوادة : اللين والرفق . المدى : الغاية . المناص : المضرّ .

2.سورة الأحزاب ۷۲ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
256

أَهلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ ؛ فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ ، وَأَمَانَةَ النَّاس قَدْ خَزِيَتْ ، وَهذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فُتِكَت وَشَغَرَتْ ، قَلَبْتَ لاِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الِْمجَنِّ ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ ، فَـلاَ ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ ، وَلاَ الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ .
وَكأنـّكَ لَمْ تَكُنِ اللّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ ، وَكأنـّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ ، وَكأنـّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ ، فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ ، كَأَنَّكَ ـ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ ـ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ .
فَسُبْحَانَ اللّهِ ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ ؟ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ ؟ أَيُّهَا الْمَعْدُودُ - كَانَ - عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الألْبَابِ ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً ، وَتَشْرَبُ حَرَاماً ، وَتَبْتَاعُ الاْءِمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِمْ هذِهِ الْأَمْوَالَ ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هذِهِ الْبِلاَدَ!
فَاتَّقِ اللّهَ وَارْدُدْ إِلَى هؤلاَءِ الْقَوْمِ مَوَالَهُمْ ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللّهُ مِنْكَ ، لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللّهِ فِيكَ ، وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ !
وَوَاللّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَةٍ ، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا ، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا .
وَأُقْسِمُ بِاللّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي ، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي ؛ فَضَحِّ رُوَيْداً ، فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى ، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى ،

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120977
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي